مطلع الشهر الجاري، نقلت قيادة اليونيفيل إلى الجيش اللبناني، عزم الجيش الإسرائيلي على البدء بتشييد جدار إسمنتي فاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بين الحدود الشمالية وبلدة كفركلا، يمتد على طول نحو كيلومتر واحد من نقطة بوابة فاطمة، ويتجه جنوباً وصولاً إلى مدخل بلدة العديسة المحاذية، وشمالاً باتجاه حدود سهل الخيام. المخطط الأولي يتحدث عن ارتفاع لا يتجاوز ثمانية أمتار، هي كافية لحماية المواقع العسكرية وممرّ الآليات من مرمى الجانب اللبناني.
لكن لا شيء ثابت مع العدو الذي شيّد جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية؛ إذ بحسب مصدر عسكري لبناني، قد يزيد ارتفاع جدار كفركلا على أحد عشر متراً، وقد يمتد على طول الحدود. الاجتماع الثلاثي في رأس الناقورة ناقش آلية بناء الجدار ومدى تأثيره على الجانب اللبناني من وجهة عسكرية. ويتصدّر أولويات الجيش اللبناني منع العدو من انتهاك الخط الأزرق أو نقاط متحفظ عليها، خلال ورشة البناء التي ستشرف لجنة فنية منه عليها من جانب كفركلا. هذا عسكرياً واستراتيجياً، ماذا عن جيران الجدار المفترض، وزوار بوابة فاطمة؟
تنطلق بنا السيارة برفقة أحد الجنوبيين المغتربين من بيروت مباشرة باتجاه بوابة فاطمة. الرجل وصل لتوّه إلى لبنان لتمضية إجازة بين الأهل، لكنه، كما في كلّ زيارة، يضع الموعد مع البوابة في رأس اللائحة. هو لا يزورها مع مواطنيه في الاغتراب كلما سنحت الفرصة فحسب، بل جعل منها مقصداً سياحياً يصطحب إليه أصدقاءه العرب والأجانب. لا «يحجّ» إلى هنا ليعوّض عقود الاحتلال، فمسقط رأسه تحرّر قبل عام 2000 بسنوات. لكن تمثّل البوابة له ممرّاً، ليس إلى القدس كما تقول الشعارات المرتفعة في كل زاوية، بل إلى الكرامة والحرية. نصل إلى ساحة بوابة فاطمة. ينزل سريعاً من السيارة، مهرولاً باتجاه الشريط الشائك ومستغلاً كل نفَس في رئتيه ليتنشق الهواء القادم من المطلة. كلما اقترب أكثر، ازداد تأهب عناصر الدوريات العسكرية التابعة للجيش اللبناني والوحدة الإسبانية في اليونيفيل. تفهّم أسباب منع المواطنين من الاقتراب من الشريط، لكنه لم يتقبل سبب منعه من التصوير بواسطة هاتفه الخلوي.
لم يكن الزائر الوحيد؛ إذ لا تختلف الحركة عند البوابة بين أيام العطل والأيام العادية في المكان الذي كرّس تدريجاً، منذ ما بعد تحرير عام 2000، إلى ما يشبه باحة لمهرجان مستمر أو صالة لمعرض دائم. الساحة فسيحة يعزّزها تقاطع السير في أربعة اتجاهات. يسهم في مزيد من «الفرجة» على المكان عندما يضطر المارّة إلى تخفيف سرعة سياراتهم. ليس نسيم الحرية والنصر، ما يضفي شعوراً بالألفة والفرح. يركض المغترب على الرصيف الملوّن المستحدث كطفل صغير، ويتلمس حديقة الأطفال والألعاب اللذين افتتحتهما أخيراً الهيئة الإيرانية لإعمار لبنان. يؤكد أن الرصيف والحديقة، على بساطتهما وصغر مساحتهما، يفوقان جمالاً ما هو متوافر في غربته الأوروبية. والسبب برأيه الخلفية الشرقية: مشرق الشمس وتلال الجليل. فالموقع الإسرائيلي قبالة البوابة تعلوه دشمة يختبئ خلفها رشاش مدفعي مصوب باتجاهها و«هامر». الدشمة ذاتها لا تستطيع حجب فلسطين عن ناظرها، لكنها تعزز الحذر في الجانب الإسرائيلي الذي لا تبدده حقول الأشجار المثمرة وهدوء «فيلات» مستعمرة المطلة.
يحرص الرجل على متابعة أخبار بوابة فاطمة. في صيف عام 2010، تابع أحداث المعارك التي خاضها اللبنانيون لرصف الرصيف وتجميل الحديقة بمحاذاة الشريط الشائك. فيما فشلوا في استكمال المشهد بزرع أشجار «تعربش» على السياج. ثم ارتفعت قبالتها أعمدة إنارة تعمل على الطاقة الشمسية وتبقي المكان مضيئاً دائماً. تزداد غبطة الرجل في المكان وتفاصيله، فيزداد ارتباكنا في إبلاغه بأمر بناء الجدار الذي لم يكن قد سمع به في وسائل الإعلام. كيف نخبره بأن الرصيف الملون سيقابله جدار إسمنتي شاحب قد يحجب شروق الشمس وفلسطين عنه؟
يرفض الرجل تقبّل الجدار، فيما تختلف ردود الفعل لدى الأهالي. أحد عمال المطعم المقابل للساحة، اعترض لأسباب تتعلق بـ«مصلحته». فالجدار «سيضرب السياحة وحركة الزوار التي يجذبها الحضور لمواجهة الجنود الإسرائيليين عن قرب ومشاهدة الأراضي المحتلة». أما ربة أحد المنازل، التي تفصلها طريق ضيقة عن الجدار المرتقب، فقد وجدت فيه شيئاً إيجابياً لها ولجيرانها. فالسيدة التي أمضت الجزء الأكبر من عمرها تحت نير الاحتلال في مسقط رأسها في الخيام ثم انتقلت إلى كفركلا بعد الزواج، ترى أن اطمئنانها إلى سلامة أطفالها الثلاثة يمثّل الأولوية بالنسبة إليها. فهي لا تسمح لهم باللعب أمام المنزل خوفاً من حركة غادرة من دوريات العدو ومرابضة جنوده في الموقع القريب. في خلدها هاجس دائم من قصف أو قنص أو خطف قد يقدمون عليه بحسب ما اختبرتهم منذ الولادة. من هنا، يصبح الجدار بالنسبة إليها «رياحة راس» من غدرهم، من جهة، ومانعاً للغبار الذي يحدثه الهامر عند مروره مسرعاً على الممر العسكري الترابي من جهة أخرى. جارها الستيني يوافقها الرأي، مشيراً إلى أن الجدار «يريحنا من رؤية أشكالهم و أعمالهم الاستفزازية». ويذكّر في هذا الإطار بحادثة قيام جنود إسرائيليين قبل أشهر برشق الجيش اللبناني واليونيفيل بالحجارة وتوجيه رشاشهم باتجاه صدر جندي لبناني استنفر في وجههم.
رشق الجدار
منذ تحرير الجنوب، تحولت بوابة فاطمة إلى محجة تتخطى رمزيتها الانتصار والمقاومة والقدس، وصولاً إلى قضايا التحرر في العالم. في السنوات الأولى، قطع الآلاف مسافات طويلة ليرشقوا حجراً باتجاه الموقع الإسرائيلي الذي كان في متناول القبضات قبل رفع الشريط الشائك وتدعيم دشماته. من إدوارد سعيد إلى أمير قطر مروراً بجميلة بو حيرد (الصورة) وآلبيدا تشي غيفارا ومئات المسيرات الشعبية والحزبية، خطى وحناجر صدحت هنا لتعبر البوابة نحو القدس. البوابة قد تتحول إلى جدار إسمنتي مسلّح، فهل نشهد عهد رشق الجدار؟