أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

ميناء جلّ البحر: عالوعد يا توتيا!

الأربعاء 14 آذار , 2012 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,528 زائر

ميناء جلّ البحر: عالوعد يا توتيا!

أقفاص الصيّادين في ميناء جلّ البحر نائمة. منذ كانون الأول الماضي، شباكهم معطلّة. لا صيد ولا من يصطادون. رجال البحر يحرسون ميناءهم المغدور. يلعبون الورق في غرفة ناجيّة من حدّة الموج، وبعضهم يتشمّس. لقد داعبت العاصفة الميناء القديم، قليلاً، والحصيلة النهائيّة: مقتل ستة مراكب. تكلفة المراكب باهظة. واحدٌ منها يكلّف أكثر من 10 آلاف دولار أميركي، كما يؤكد الصيّاد القديم، غندور غاوي. وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك. ثمة «مسلسل» مرتبط بالميناء، وبسنسوله المهترئ، المترنّح أمام ضربات البحر.

مسلسل وعود طويل، على الطريقة اللبنانيّة.
بعد اتصالات مع الصيادين، بدأت قبل ثلاث سنوات تقريباً، تفاءل الجميع. سرعان ما بدأ العمل، قبل الانتخابات النيابيّة الأخيرة. قيل حينها إن الورشة التي حلّت في الميناء كانت بمبادرة من وزارة الأشغال العامة والنقل. وقيل أيضاً، إن وزير الأشغال والنقل غازي العريضي، تحرّك لاستمالة الصيادين، إلى حزبه، «في الخلاف الدائر داخل الطائفة الدرزيّة»، الذي ما لبث أن تطوّر بعد الاعتداء على بيت الطائفة في فردان العام الفائت، لكن، في الوقت عينه، يؤكد متابعون، أن «تدخّل وزارة النقل ليس سياسيّاً». فصلاحية بلديّة بيروت تنتهي عند حدود البحر. صلاحية البلديّة مسيّجة بالدرابزين الفضي. ذلك أن «إصلاح» الميناء لا يقتضي حصول «إنشاءات جديدة»، والأمر متوقف على ترميم غرف الصيّادين القديمة، لكن اللافت، أن وزارة الأشغال العامة والنقل، تدخلت في «جلّ البحر» سريعاً. وأتى الوزير محمّلاً بالوعود. كانت وعوداً إصلاحيّة «قدر المستطاع». فالميناء من عمر «البحريّة الفرنسيّة» ما شاء الله، و«التوتيا» انقرض والحمد لله، والصيّاد في أحسن حالاته، يدفع ثمن «تنكتي» بنزين في الرحلة، عائداً بثلاثة كلغ سمك، عوضاً عن 8 و9 كان يعود بها في الثمانينيات. «أيام الحرب كان في سمك»، يقول صياد مسنّ بحنين، إلى السمك طبعاً، لا إلى الحرب.
في الأصل، لطالما كانت بيروت مدينة حرب، وكان البحر بوابتها. في سنوات القرن الثامن عشر الأخيرة مثلاً، كانت «واجهة بيروت البحريّة» ميداناً حاميّاً. يقول المؤرّخون، إن خلافاً حاداً نشأ حينها بين حاكمها الأمير يوسف الشهابي وأحد أتباعه «المعروفين»، أحمد باشا الجزّار. كان كل منهما يحاول الاستئثار بالمدينة وببحرها. إنه بحرٌ مغرٍ، وقد فقده الطرفان آنذاك، إذ احتُّل بحر المدينة، من قبل الأميرال الروسي، سبنسكوف. كان قرصاناً يغزو المياه العثمانيّة لحساب إمبراطورة روسيا القويّة كاترين الثانية. ولم يكن التخلي عن هذا البحر سهلاً، إذ نصب الأميرال مدافع البحريّة الروسيّة في سهول ساحة البرج، ليتمكن من هناك، من اقتحام المدينة. تاريخيّاً، انتهت سطوة الروس على بحر بيروت بعد شهور قليلة، إذ دفعت لهم المدينة غرامة قدرها 25 ألف ريال بعملة ذلك
الزمان.
أما اليوم، فالسجال مختلف، لكنّ البحر لم يتغير. وصار السجال أشد «حماوةً» بين «الدولة» والصيّادين. بعد حملة العريضي «الإصلاحيّة» أضيفت بعض الأبواب الحديدية إلى الميناء، لكن لا تغيير جذريّاً حدث. على العكس، استمر الردم في الهطول على المراكب. حتى إن حجم بعض الصخور «الطائرة» إلى رصيف الميناء، حيث تُربط المراكب، كبير إلى درجة لا تصدق. يخيّل للناظر إليها أنها وضعت عمداً، وأن العاصفة بريئة منها.
بكلمات أخرى، ظلت العواصف أقوى من الإصلاحات، وجلبت المزيد من الأحجار إلى «مرابض» المراكب. ولولا المقابض التي تعقد فيها خيوط «الفلوكات» والمراكب، لبدا السنسول أشبه بأحجار متروكة للملح. في أية حال، أتى مستشار وزير النقل، عبد الحفيظ القيسي، أكثر من مرة، بعد انتهاء الورشة، لكنه منذ فترة، لا يأتي لمعاينة الأضرار، وفقاً لغاوي. لا يعرف الصيّادون إن كانت «أسباب إهمالهم سياسيّة أو غير ذلك». وتعليقاً على «قلق» الصيّادين، و«الشائعات» التي تتحدث عما يشبه «الخصومة» بينهم وبين «تيار المستقبل»، أكد العريضي، في حديث مع «الأخبار»، أن «جميع الموانئ اللبنانيّة من مسؤوليّة وزارة الأشغال العامة والنقل». ونفى ارتباط مطالبات صيّادي «جل البحر» بالسياسة، لافتاً إلى أن الوزارة «ستقوم بجولة تفقديّة على جميع الموانئ لإحصاء الأضرار فور هدوء العاصفة، وإعداد تقرير مفصّل عنها، وتقديمه إلى مجلس الوزراء». المستقبل؟ لا علاقة للمستقبل، ولا لزيارة نوابه المباغتة إلى الميناء قبل عامين... «القصة عندي»، قال العريضي بحزم.
عموماً، لا يحب الصيّادون «توتير» الأجواء مع «تيار المستقبل». لا يحبون أيضاً أن «يستميلهم» الوزير العريضي إلى صفه، مقابل أصواتهم، في نزاع لا شأن لهم به. أجمع أكثر من واحد منهم، على رفضهم تسييس القضيّة رفضاً تاماً. في الأساس، أبناء الجلّ يعرفونه أكثر من السياسيين. هم أعطوه هذا الاسم قبل قرن ونصف قرن. ووفقاً لأحد الصيّادين «الرخصة فرنسيّة ومن أيام البحريّة الفرنسيّة». ثابتون هناك «أبّاً عن جد»، ويعرفون المدينة من بوابتها البحرية. «تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الإشتراكي» طارئان على البحر، لكن الوزير «وزير نقل والميناء بحاجة إلى مساعدة»، يقول صيّاد قديم. وعلى الوعد يا صيّادين. فعمليّاً، أول محطة شعر فيها هؤلاء بأنّ ميناءهم دخل إلى «البازار»، كانت حين «ظهر» نواب «المستقبل» في الميناء، قبل عامين تقريباً، في 8 شباط 2010، متهمين أهله بـ«تشويه» ما يسمّى الواجهة البحريّة لمدينة بيروت. وللمناسبة هذا مصطلح جديد لا يعترف به الصيّادون. بيروت لم تخترع البحر، بل ظهرت بعد جفاف أجزائه.
البحر اخترع بيروت لا العكس. وإن كان من واجهة للآخر، فالمدينة هي الحدث لا العكس. البحر للجميع وكذلك المدينة. أما بالنسبة إلى زوّار الميناء، فيشعر الصيّادون بأن خلفياتهم «كانت مذهبية». لا يحبون تذكر ذلك اليوم المشؤوم، خوفاً من تداعيات «الحديث في السياسة». وعلى هذا الأساس، يرفضون تصنيف ما حصل في خانة «المنهج» المتبّع من قبل «تيار المستقبل»، ويبرّئون الرئيس السابق سعد الحريري منه. يحصرونه في ذلك «الرجل الذي هدّد الناس بحرمانهم الكورنيش».
ولا بد هنا من استعادة أحداث غزوة جل البحر الميمونة. كان هناك ثلاثة نواب. محمد قباني، الذي يتحدث عنه الصيّادون أكثر من غيره، وغازي يوسف، الذي بالكاد يأتون على ذكره، بل إن أحد الصيّادين يعدّه «مرافقاً»، والنائب نهاد مشنوق، الذي يعترف كثيرون بأنه حاول «تهدئة الأمور». أما رواية «جيران» الميناء، الموالين لـ«المستقبل»، فتفيد بأن عدداً من سكان جلّ البحر، ومعهم النائب محمد قباني والنائب السابق سليم دياب، ذهبوا إلى الميناء، فجأة، «احتجاجاً» على استمرار الأشغال. وصودف، أن الصيّادين مقربون من الحزب التقدمي الإشتراكي، فوقع الإشكال، الذي «أزعج الوزير العريضي كثيراً». وأثناء «التدافش» حضر النائب نهاد المشنوق الى المكان برفقة النائب غازي يوسف، وحصل ما حصل. حُصرت العاصفة بعد تدخل الرئيس الحريري آنذاك، لكن انتهاء عاصفة السياسة لا يعني انتهاء العاصفة الجويّة. فالأضرار لا تحتمل. والرئيس الحريري موجود في جبال الألب اليوم. فمن يعوّض على الصيّادين مراكبهم التي التهمتها العاصفة؟ الجميع في انتظار «تقرير الوزير».


Script executed in 0.17796301841736