نحن اليوم هنا، بعد أيام أو أسابيع أو شهور أو سنوات سنستقر إلى قربهم ـ إذا قدّر لنا ـ ويملأ أمكنتنا أناس آخرون. إنه الموت المصير الذي ينتظرنا، والقهر الذي نطأطئ له الرؤوس خاضعين مستسلمين. إنه قدرنا المحتوم الذي شاءه من تعزز بالقدرة والبقاء وهو العبرة التي تحكم أعمارنا وتتحكم بمصائرنا، مهما علونا وتجبّرنا وعتونا، ولن نأخذ معنا إلا صالحات الأعمال...
وبعد... كلمة قصيرة أود ان أودع بها أخي الصغير ـ بالنسبة لي ـ الذي سبقته بالولادة وسبقني بالرحيل... أخي محمد كان الوجه المحبب في بيتنا، واللؤلؤة الغالية التي تصطف وتترابط إلى جنباتها حبات عقدنا... محمد واسطة العقد في أسرتنا، كان شاباً قبل الأوان ورجلاً قبل الميقات. هو الوحيد بيننا الذي اغترب باكراً، أخذ معه زغب الحواصل حمل بهم ومعهم آلام البعاد وشوق التراب وحنين الموجعين. فما عرف راحة ولا وجد استقراراً، هاجر ينشد المستقبل فعاش مع الماضي، ذهب ينشد الصحة والعافية فوقع بين أنياب المرض، أتراه كان يستشرف التعب الآتي والوجع الداهم والآلام المبرحة التي كانت تنتظره، يهرب منها فتلاقيه وتطرحه جسداً منهكاً على فراش شائك لا يريح.
اليوم نحن الحزانى حتى الموت، وقد جيء بك محمولاً كما طلبت... نحن الحزانى حتى الموت على تلك التي غدت خيال إنسان تتهالك بين الوعي واللاوعي تدرك بحدسها هول ما ينتظرها وهي تمسك مرتجفة بيدك المتراخية كما تمــسك أنت بيدها الضعيفة، تحاول أن تشد على يدك فلا هي تقوى ولا أنت تســتجيب. في هذه اللحظات عرفنا معنى البكاء الداهم بلا دموع والنحيب الصامت بلا صراخ، عرفنا وأدركنا بعمق ان وجع الروح أكثر إيلاماً من وجع الجسد.
يا أخي، في وداعك الموجع بحرقة أقول ـ وكلنا على سفر ـ إن رحيل الصغير قبل الكبير، والابن قبل الوالدين، والحبيب قبل حبيبه، يترك الفراغ الموحش والذكريات المؤلمة التي تثير الكوامن وتوقظ الصور البهية.