أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

من طرابلس ــ الشام إلى طرابلس ــ حــمص

السبت 19 أيار , 2012 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,460 زائر

من طرابلس ــ الشام إلى طرابلس ــ حــمص

لا تقتصر دلالة أحداث الأيام الخمسة المنصرمة في طرابلس على خروج التيّارات السلفية، بأسلحتها، إلى الشارع وتلويحها بالسيطرة على المدينة، بالتزامن مع استعادة خطوط التماس التقليدية والتاريخية مع جبل محسن فحسب، بل قدّمت دلالتين أخريين مهمتين: أولاهما، جهرها بتحوّلها كياناً سياسياً مستقلاً، يكاد يكون واحداً رغم الفروق، الأساسية أحياناً، التي تميّز قواها وتيّاراتها. وثانيتها، أنها هي المعنية بالموافقة على دخول الجيش إلى طرابلس لوقف الاشتباكات مع جبل محسن، من غير أن يحول ذلك دون اشتباكات مماثلة بين الجيش وسلفيين مسلحين.

 

وبمعزل عن المسار الذي ستسلكه الحال الطرابلسية حتى الثلاثاء، في انتظار اتخاذ القضاء قراره من توقيف السلفي شادي مولوي أو إطلاقه ــ وغالب الظنّ أنه سيظلّ موقوفاً ــ قلبت أحداث المدينة قاعدة بدا أنها ستظلّ ثابتة منذ آذار 2011 مع انفجار الاضطرابات في سوريا، هي تحييد الوضع الداخلي اللبناني وتجنيبه التأثر بما يجري هناك أو ربطه به. اقترنت هذه القاعدة بإجراءين:

ــ تكليف الجيش ضمان الاستقرار الأمني وفرضه عند الضرورة، والحؤول دون أي احتكام إلى السلاح بين قوى 8 و14 آذار من جراء انقسامهما على أحداث سوريا بين مؤيد للنظام ومعارض له، ومنع تهريب السلاح وتسلّل المسلحين إلى سوريا أو منها.

ــ النأي بالنفس عن أحداث سوريا في السياسة الخارجية للبنان، فلم تتبعها سوى مواقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومجلس الوزراء عندما يلتئم فقط. ما خلاهما لم ينأَ أي من أفرقاء الحكومة ووزرائها بنفسه عن تلك الأحداث.

إلا أن مصادر رسمية واسعة الاطلاع بدأت تتحدّث عن انطباعات مغايرة، تعزّزها مخاوف جدّية من أن يكون لبنان لأول مرة أكثر التصاقاً بتداعيات ما يجري في سوريا. بعد أحداث طرابلس في شباط الفائت، متزامنة مع هجوم الجيش السوري على حمص، وخصوصاً بابا عمرو، بغية استعادة السيطرة عليها، ارتفعت نبرة التيّارات السلفية، منادية بالتضامن مع حمص والدفاع عنها، فأفضت إلى اشتباكات بين باب التبانة وجبل محسن مع طرح معادلة بدت، في ذلك الوقت، ساذجة وخطيرة وغير واقعية في الوقت نفسه، حينما لمّحت تيارات سلفية إلى معادلة «جبل محسن في مقابل حمص»: يسقط هذا بسقوط تلك.

لم يَطل هذا الإيحاء. وانطفأت فجأة أحداث طرابلس بعد اشتباكات عنيفة أعقبها تدخّل الجيش وتعزيز انتشاره. مذ ذاك تأكدت حتمية جولة ثانية بعد أولى لم تكن قد نضجت تماماً نتائجها. ولم تشأ التيّارات السلفية الظهور علناً في مواجهة مكشوفة مع الجميع، تحتمل الصدام مع الجيش على نحو ما جرى في الأيام الأخيرة.

وتُبرز المصادر الرسمية الواسعة الاطلاع بضع ملاحظات كالآتي:

1 ـ مع أن الجيش نشر حتى اليومين المنصرمين 4000 عسكري في أحياء طرابلس وعلى خط التماس بين باب التبانة وجبل محسن، إلا أن قراره هذا لا يُنبئ بحسم عسكري ضد مسلحي طرفي النزاع، ولا تبدو المؤسسة العسكرية في وارد الخوض في امتحان كهذا، تحت وطأة المطالبة بطرابلس منزوعة السلاح. بل ينظر الجيش إلى الوضع فيها على أنه بالغ الدقة والخطورة. لا يسعه التدخّل إلا بتوافق زعماء المدينة وقياداتها بمَن فيهم التيّارات السلفية، إلا أنه لا يوافق في المقابل على نشره بين فكّي كماشة محاصراً بين فريقي خط التماس في شارع سوريا وداخل أحياء المدينة. ساء الجيش انتشار مئات المسلحين في شوارع وأحياء بعيدة من خط التماس، ولا أسباب لأي نزاع أو خلاف أو أفرقاء متناحرين في أحياء مثل شارعي عزمي والزاهرية.

ورغم تقويم القيادة بأن المدينة اجتازت قطوعاً خطيراً قبل أيام مع انتشار الجيش بكثافة فيها، بيد أن ذلك لا يحجب خشيتها من محاولة للزجّ بالجيش في صراع داخلي أو استهدافه في شوارع المدينة بغية شلّ دوره وإحداث فوضى فيها. غذّت هذا الاعتقاد مواقف بعض نواب عكار الذين شكّكوا في الأشهر الأخيرة، مراراً، بالجيش واستخباراته وانتقدوه بعنف لم يخلُ من تحريض، وأضحوا أول دعاته إلى الانتشار في قلب طرابلس لفكّ الاشتباك من دون أن تسبق ذلك إجراءات سحب المسلحين.

2 ــ لم يكن من قبيل المصادفة تصاعد وتيرة أحداث طرابلس بين الاثنين والخميس، فقفزت من مرحلة إلى أخرى خلال ساعات، وأفصحت عن نتائج مغايرة تماماً لدوافع حركة احتجاج أضحت فلتاناً مسلحاً في كل المدينة. من الاعتراض على توقيف مولوي، إلى الاعتصام لإطلاقه، إلى فتح ملف الإسلاميين الموقوفين لدى القضاء بلا محاكمة، إلى اشتباكات بين باب التبانة وجبل محسن لا علاقة لها بتوقيف مولوي ولا بالإسلاميين السجناء، إلى انتشار مسلح كثيف في الشوارع والتدقيق في هويات المارة، بالتزامن مع مواقف سياسية عالية النبرة ربطت ما يجري في طرابلس بأحداث سوريا.

ومع أن السببين الأولين للفوضى باتا أمام خطوات سريعة للمعالجة، كمنت المشكلة الأم، عند الجيش، في تعذّر إيجاد وسائل تمكّن من حلّ انتشار مسلحين يدينون بالولاء لمرجعيات وزعماء وأحزاب وتيّارات سياسية لم يعد يسعها السيطرة تماماً على الشارع، وهو مغزى إعلان بعضها رفع الغطاء السياسي عن كلّ مخلّ بالأمن. لم يحل ذلك دون إزالة كل المتاريس التي نصبت فجأة عند خطوط التماس التقليدية. بل تنظر المؤسسة العسكرية بكثير من القلق إلى تطور الأحداث الأخيرة، وخصوصاً في ضوء معلومات بلغتها عن قرار بإخراج الجيش من المدينة وتحويل الشمال، بدءاً من عاصمته، منطقة عازلة عند الحدود اللبنانية ــــ السورية تمكّن معارضي نظام الرئيس بشّار الأسد، سوريين ولبنانيين وسائر المنخرطين من جنسيات عربية أخرى بعمود فقري سلفي، من تنظيم قواهم في المواجهة على خط يمتد من البحر إلى حمص لربط جانبي الحدود بعضها ببعض، على نحو يتيح معابر برّية وبحرية آمنة.

3 ــ في يقين الجيش، طبقاً لقراره منع تهريب السلاح وتسلّل المسلحين إلى سوريا ومنها، ونجح في تطبيقه إلى حدّ بعيد شمالاً وبقاعاً، بما في ذلك توقيف باخرة السلاح «لطف الله 2»، فإن انتشاره والغطاء السياسي الذي وفرته له القيادات الطرابلسية مكّناه ــــ حتى الآن على الأقل ــــ من منع أي محاولة لتنفيذ أولى مراحل تلك الخطة. إلا أن تعطيلها يحتاج إلى أكثر من الغطاء السياسي. وبدا واضحاً من ردود الفعل التي أحاطت بالأحداث الأخيرة تركيزها على شقّ واحد توسّل تارة توقيف مولوي وطوراً الإسلاميين السجناء، هو إصرار التيّارات السلفية في طرابلس خصوصاً على المضي في مواجهة النظام السوري ومؤازرة معارضيه المسلحين والمشاركة الفعلية في التسليح والقتال، ويعزونه إلى دوافع دينية وعقائدية غير قابلة للجدل، مع معرفة هذه التيّارات بالدور المناقض لهذا الهدف يقوم به الجيش، وهو منع تهريب السلاح والتسلل إلى سوريا أو منها.

لأول مرة، وأكثر من أي وقت مضى، أضحت طرابلس الشام أقرب إلى طرابلس حمص.


Script executed in 0.17415308952332