كان التنقّل حتّى داخل البلدة، وفق جهاد حمّود، من بلدة بنت جبيل، صعباً في فترة الاحتلال خوفاً من الكمائن. و"كان يجب على السائق أن يرافقه شخص آخر، وأن يتوقّف في حال مرور دورية عسكريّة"، يروي حسين رحيّم، من بلدة الخيام. وتخبر الممرّضة خديجة شريم، في مستشفى ميس الجبل، أنه كان يتعذر نقل النساء في فترة المخاض من دون الحصول على تصريح، خصوصاً في الليل. لكن، اليوم، يمكن أن "تزور بيروت وتعود في منتصف الليل من دون الشعور بالخوف أو القلق"، تقول إحداهن من بلدة عين إبل.
تحت الاحتلال، كان حمّود يتلقّى الرسائل المكتوبة من الأقارب المهاجرين للاطلاع على أخبارهم والاطمئنان على صحّتهم. وكان علي قاسم، من بلدة يارون، يتوخّى الحذر حين يهاتف أهله من "الولايات المتّحدة الأميركيّة"، فالأجهزة الإسرائيليّة تراقب خطوط الهاتف، ولا خطوط هاتف رسميّة للدولة اللبنانيّة. آنذاك، ضمّت القرى سنترالات داخليّة، تتلقّى المكالمات الهاتفيّة وتوزّعها على البيوت في ظلّ تنصّت العملاء واستخبارات الاحتلال. يتذكّر حسين كرنيب، 23 عاماً من بلدة مارون الراس، أن "القنوات التلفزيونيّة كانت محدودة ومحصورة بقنوات إسرائيليّة وقناتين محليّتين. أما اليوم، فوسائل الاتصال من هاتف وإنترنت وستالايت مؤمّنة في القرى المحرّرة".
أعراس بلا أقرباء
يقول رحيّم إنه في ظل الاحتلال، لم يكن التعبير عن الحزن في المناسبات الأليمة مسموحاً بحرّية. ويخبر بعض روّاد "نادي المسنين" في عيترون (فضلوا عدم ذكر أسمائهم)، أنه لم يكن مسموحاً التكلّم في السياسة في حسينيات البلدة. ويلفت أدهم رمال، من بلدة العديسة، إلى أن "المشاركة في المآتم كانت خفيفة". بينما يؤكّد مواطن من بلدة رميش، أن "أهالي القرى المجاورة لم يتوقفّوا يوماً، قبل التحرير وبعده، عن مشاركة أهل البلدة عزاءهم".
لم تتمكّن الحاجة سكنة سعد من حضور حفل عقد قران ابنها في بيروت. وتضيف أن "العملاء وحدهم كانوا يقيمون الأعراس في بنت جبيل". المأساة نفسها عاشتها مواطنة من مرجعيون، لم يتمكن أهلها المقيمون في مدينة زحلة من الانتقال إلى الشريط المحتل لحضور زفافها. برغم هذا، اختلف طابع الأعراس في تلك المنطقة، فيلاحظ رمّال غلبة الأعراس ذات الطابع الديني، حيث يمنع الاختلاط بين الرجال والنساء، ويحرّم بث الأغاني وتناول الكحول.
وتؤكّد هذا فلورا فواز، من بلدة كفركلا: "كانت العادة إقامة الحفلات في البيوت، بينما اليوم تُحيا الموالد الدينيّة في الصالات التجاريّة".
وفي فترة الاحتلال، كان أهل بلدة رميش، على سبيل المثال، يحتفلون بالأعراس في الساحات (البركة والكنيسة)، واليوم باتوا يقيمون الأعراس في الصالات، يقول المختار السابق خليل الحاج.
تحت المراقبة
"كانت الحياة الاجتماعيّة في ظل الاحتلال معطّلة"، وفق محمد فاعور، من بلدة الخيام، "بسبب الشعور بالخوف والحذر وغياب التواصل مع الأهالي خارج الشريط الحدودي". وتسترجع الحاجة سعد، التي عاشت سنوات عدّة بعيدة من أولادها المقيمين في بيروت، "مراقبة العملاء حركات المدنيين، مما يفقد الحياة الاجتماعيّة طعمها". يُتوّج هذا في ما تقوله نهاد بيضون، من بنت جبيل: "لم أكن أجرؤ على إلقاء التحيّة على الجيران والأقارب". بينما يرى ن. إبراهيم تراجع الحركة الاجتماعيّة في مرجعيون بعد التحرير، لا يجد أحد الحزبيين في بلدة رميش "أي تأثير للاحتلال في الحياة الاجتماعيّة"، ويعتبر أنّها ما زالت كما كانت.
وسط هذا، تتسع حركة المغتربين والأقارب والزوّار، في تلك المنطقة، وفق ما يلاحظ أحمد عباس من بلدة بليدا. هكذا، بات في إمكان أبناء فلورا فواز أن يتعرّفوا إلى أقاربهم وأقرانهم. لكن، في المقابل، تلاحظ فلورا، ومعها رمال وكرنيب، تباعداً في العلاقات الاجتماعيّة داخل القرى بعدما أُزيلت الحواجز والأسوار التي كانت تفصل تلك المنطقة عن جوارها ولبنان عموماً.
وبالرغم مما يُقال، تشهد بعض البلدات، منذ التحرير، نشوء نوادٍ ثقافيّة ورياضيّة. وها هو الشاب إيلي إسكندر، من بلدة رميش، يهتم بالنشاطات الرياضيّة التي ينظّمها نادي البلدة، والتي "يشارك فيها اللاعبون من مختلف القرى المجاورة". ويتردد المواطنون في بلدته، وفق المنشّطة في المكتبة العامة منار عساف، على المكتبة لاستعارة الكتب. وبعيداً من رميش، يتجمّع كبار السنّ في "نادي المسنّين" في عيترون، يتحدّثون ويتشاركون الذكريات والخبريات.
كان العدو واحداً
"تنامى الحسّ الطائفي والمذهبي، والتفرقة بين الأحزاب، بعد التحرير"، يقول ن. إبراهيم، "فأهالي المنطقة لم يفرّقوا يوماً بين المذاهب والانتماءات السياسيّة في زمن الاحتلال".
يوافق مواطن من بلدة العديسة، هذا الرأي، ويخبر بأسف عن ظواهر الطائفيّة في القرى المحرّرة وعن عدم توحّد جميع الأحزاب والقوى السياسيّة بعد التحرير. فبالنسبة إليه "كان العدوّ واحداً، أما اليوم فالأعداء كثر".
يطرح الحاج رأياً مغايراً، "فالعدو كان يعمل على تعزيز الفوارق الطائفيّة والمذهبيّة بين النفوس، على عكس ما تعيشه المنطقة اليوم من تآلف وتوافق بين الأهالي من مختلف الانتماءات الدينيّة والسياسيّة". و"بالرغم من أعمال العدو بقي المواطنون موحّدين". ويذكر أن مواطناً من بلدة يارون تبرّع بأموال لكنيسة رميش في فترة الاحتلال.
الوطن البعيد
في زمن الاحتلال، لم تكن عساف تفكّر في المناطق خارج "الشريط الحدودي"، بينما كان إبراهيم يتمنّى أن يتعرّف إلى المناطق اللبنانيّة ويكتشفها. ولم يكن التلاميذ، وفق صادر، يعرفون لبنان، وكان يصرّ دائما على طرح الأسئلة عن الدفاع عن لبنان في امتحان التربية المدنيّة. وفي الأجواء ذاتها يتذكّر الحاج، الذي كان مسؤول فصيلة مرجعيون في الدرك، الاحتفالات في عيد الاستقلال التي كانت تقام و"ترمز إلى الدولة اللبنانيّة" الغائبة.
بعد التحرير، تعرّفت عساف إلى لبنان. وبدأت المدارس تنظّم رحلات للتلاميذ إلى المناطق اللبنانيّة. وهكذا، باتت "القرى المحرّرة شبيهة بالمناطق اللبنانيّة كلها"، وفق الياس مطر، من بلدة عين إبل.
وسط هذه المواقف المتضاربة، يقول أحد المواطنين من بنت جبيل إنه ما زال يشعر بالغربة عن الوطن. ويذكر حاتم وهبي من مرجعيون، أنه لم يعرف لبنان لا في فترة الاحتلال ولا بعدها. ويعتبر بعض كبار السنّ في بلدة عيترون أن الدولة ما زالت غائبة عن القرى المحرّرة في ظلّ عدم توافر أبسط الخدمات.
المحال بأسمائها
"في فترة الاحتلال، شهدت بنت جبيل إقامة الأسواق الشعبيّة يومي الخميس والسبت تزامناً مع عطلة من كانوا يعملون في إسرائيل"، وفق جهاد حمود. أما اليوم فيقتصر السوق على يوم الخميس حيث يجتمع أهالي المناطق المجاورة ويعرضون بضائعهم المختلفة. لكن رحيّم يتذكّر أنّه في ظل الاحتلال "لم تكن تُقام الأسواق التجاريّة، بينما تقيم الخيام هذه الأيام سوق الخميس".
ويلحظ اختلاف أسماء المحال التجاريّة بعد التحرير مقارنة بزمن الاحتلال. في السابق، كانت المحال تحمل أسماء أصحابها مثل "محل أبو علي"، غير أن التحرير في العام 2000 غيّر التوجه في تسمية المحال والمؤسسات التجارية، فباتت تنهل من قاموس النصر والوفاء والعزّة والولاء.. وغيرها. إضافة إلى الأسماء ذات الطابع الديني المذهبي.
لم تعد الحاجة سكنة ترسل اللبن إلى أولادها، إذ باتوا هم منذ التحرير، يزورونها، لكن في العطل والأعياد.