أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

كأن دماً لم يُسكب

الجمعة 25 أيار , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,996 زائر

كأن دماً لم يُسكب

ينبعث نغم حزين من إحدى السيارات المركونة في الشارع الرئيسي لعين إبل ـــــ قضاء بنت جبيل. يصدح صوت أنثوي يغني «لبنان بعيوني دمعة، ع ولاد دابت ضحكاتن، ع رجال سكتت صرخاتن، دفعوا ثمنك استشهادن، تترجع وطن الحرية، جايي وبإيدي شمعة لعيون بدها تتحرر، من نار الغدر وتكبر، ببلاد حاميها العسكر عسكرنا يا لبنانيي». نظن للوهلة الأولى أنّ الأغنية قد وضعت للتو من وحي الأحداث الأخيرة للتضامن مع الجيش اللبناني. نتمسك بظنّنا أكثر وخصوصاً حين تطالعنا صورة ضخمة لابن البلدة المقدم المغوار إبراهيم سلوم رفعت في ساحة الكنيسة منذ استشهاده قبل5 سنوات في حرب مخيم نهر البارد، وصور أخرى للشهيد فرنسوا الحاج، لكن سرعان ما نكتشف أن الأغنية هي جزء من حملة «اليوم التضامني مع المبعدين قسراً إلى دولة إسرائيل في 2 حزيران المقبل تحت شعار «لبنان بعيوني دمعة»، لمناسبة مرور 12 عاماً على «التهجير». سينظم أهل البلدة قداساً وتجمعاً في حرش الصنوبر تتخلله كلمات لأهالي المبعدين. وتزامناً، تضيء عين إبل الشموع وتنضم إليها 12 بلدة لتتشارك في قرع الأجراس تحية إلى العائلات «المنفية» إلى إسرائيل. ويرأس القداس المطران بولس صياح، الذي يعينه البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي خلال أيام نائباً بطريركياً عاماً.

النشاط هو الأول من نوعه منذ التحرير، ويأتي بعد أشهر قليلة من إقرار مجلس النواب قانون معالجة أوضاع المبعدين. لا تنجح محاولاتنا لاستصراح الأهالي عن «الانتفاضة» المرتقبة. يغلب الحذر على الكثيرين، فيفضلون الصمت ويحيلوننا على رجال الدين «الذين وكلناهم التحدث باسمنا وإثارة قضيتنا». وفي هذا الإطار، مثّلت زيارة البطريرك بشارة الراعي الرعوية إلى علما الشعب قبل أشهر فرصة لعائلاتها لطرح قضية ما يزيد على مئة من أبنائها لا يزالون في الأراضي المحتلة بعد فرارهم إثر التحرير.

اليوم، تستعيد البلدة المناسبة وهي لا تزال تصلي لروح ابنها ناصيف الحداد، الذي عاد جثة قبل أيام عبر معبر رأس الناقورة. الأخير لم يكن أول من عاد في تابوت، وسط تمنيات أقاربه بأن يكون الأخير. في المقابل، كان بعض النساء والأطفال، قد عادوا تباعاً، مخلفين وراءهم الأزواج والأشقاء والآباء والأمهات. من بين هؤلاء، شقيقتان عادتا وحدهما قبل عدوان تموز. «زمطو»، يقول قريبهما، في إشارة إلى «تداعيات العدوان وكشف شبكات العملاء، التي انعكست سلباً على اللبنانيين في اسرائيل، وعززت النظرة المعادية إليهم». إحدى الشقيقتين حاولت كسر العزلة التي يفرضها «ملفها الشخصي» في محيطها، فالتحقت بأحد معاهد صور لإكمال دراستها. اندمجت في موطنها الأصلي كصبية في بيئة متنوعة الديانات والثقافات بعد 6 سنوات من النشأة في بيئة معادية. صار لها أصدقاء وصديقات شرط ألا يعرف أحد منهم أنها «ابنة عميل، وعائلتها لا تزال في الأرض المحتلة». وإذا كانت الصبية قد استقرت في مسقط رأسها، فإن معظم من يعدن «لا يجرؤن» على فعل ذلك. ففي آذار الفائت، عادت 4 نسوة، واحدة من العديسة وثلاث من منطقة جزين، لم يمررن على بلداتهن وتوجهن مباشرة للإقامة مع أقاربهن في بيروت. وقبلهن كانت سيدة من بلدة البياضة قد عادت قبل 4 سنوات والتحقت بمن بقي من عائلتها في لبنان، ممن يقيمون بين صور وبيروت.

على طريق العديسة ـــــ كفركلا، وفي فيء الجدار الفاصل الذي يشيّده العدو الإسرائيلي، يتلعثم اللسان عند سؤال الأهالي عن إمكان المشاركة في اليوم التضامني الذي تدعو إليه عين إبل. فالعمالة لإسرائيل قبل التحرير وبعده تخطت الطوائف والبلدات. في العديسة، لا يزال نحو 15 من أبنائها داخل الأراضي المحتلة، منهم 10 فروا بعيد عدوان تموز. أما من كفركلا، فهناك نحو 10. ومن بلدات مرجعيون هناك أكثر من مئة. كذلك، فإن لبلدات قضاء صور وبنت جبيل الحدوديتين، حصة «جوّا»: الناقورة ورميش ودبل وعيترون... السؤال كفيل بأن يثير استفزازاً عارماً. يتنهد عجوز يجلس قبالة النصب التذكاري المشيد حديثاً تخليداً لشهداء مواجهة العديسة بين الجيش اللبناني والعدو الإسرائيلي ويحتاج إلى وقت طويل لاستعراض «عمر من المقاومة والعمالة لن يمحى بـ12 عاماً تخلط بينهما». يأخذ جاره قسطاً من التفكير، ليؤكد أن «قلة سيجرؤون على المشاركة حتى من أبناء البلدات المسيحية، وإن كان الكثيرون منهم يحنون إلى زمن الاحتلال بسبب النعيم الذي كانوا يتمتعون به مقارنةً بزمن التحرير».

نتوجه مع مرافقينا من أبناء المنطقة، لأخذ استراحة في مقهى يشهد إقبالاً واسعاً من المواطنين والزوار والجيش واليونيفيل. يروي محدثنا كيف أن العمالة «ليست مثار جدل بين الداخل وهنا فقط، بل بين هنا وهنا أيضاً». ويشير بإصبعه إلى صاحب المقهى، كاشفاً بأنه «عميل سابق، متحدر من عائلة عريقة في هذا المجال». نسأل عن أسلوب تعاطي الناس معه، فيجيب إن «الناس ينسون ويغفرون ساعة يشاؤون وفق معادلة نعمة النسيان»، في إشارة إلى عدد من المتمولين والحزبيين والعناصر في الأجهزة الأمنية الذين «أقفل الناس على ماضيهم وقلبوا لهم صفحة جديدة، ودمجهوم في وطن ما بعد التحرير كأن دماً لم يسكب».


Script executed in 0.19429111480713