أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

عاد مجمّع الإمام الحسن... فاقداً «روحه»

الخميس 12 تموز , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 5,236 زائر

عاد مجمّع الإمام الحسن... فاقداً «روحه»

ينشقّ الباب عن وجه ناصع البياض، تختبئ بقيته خلف خصل الشعر الناتئ من تحت المنديل الأسود المطروح على عجل. تبتسم الفتاة مرحّبة، من دون أن تعرف سبب زيارة غريبين للبيت الذي انتقلت إليه منذ أسبوع فقط. لكنها، في قرارة نفسها، ستتكهّن السبب وستعرف أنها زيارة «في ذكرى حرب تموز؟»، تسأل.

هي زينب مكي. الاسم وارد في الذاكرة القريبة لمن عاش حرب العام 2006، أو حتى سمع عنها. هي الصغيرة، التي رأت قبل ست سنوات ركام بيتها في مجمّع الإمام الحسن جاثماً فوق أبيها وأمها وشقيقها وشقيقتيها.. وبقيت وحيدة. اليوم، كبرت الصغيرة. صارت عروساً، وصار لها بيت مستقل، فقبل أسبوع، تزوجت زينب وعادت ترمّم حياتها في المكان نفسه الذي «راحت» فيه العائلة في المجمّع، في آخر يومٍ من الحرب. لم تكن تلك «السيدة» التي عاشت سنواتها الست، ما بعد المجزرة بين منزلي جدها وعمها، تفكر بأنها ستجلس «مطرحهم».

 

كانت قد نسيت تماماً كيف تكون الحياة طبيعية في المكان الذي بقيت بعض أشلاء الموتى مختفية في أحشائه. تساءلت مراراً: كيف يمكن أن يكون العيش فوق مجزرة؟ في البيت الذي استحال فيه العمر تراباً؟ وفي كل مرة، كان الجواب عصياً. لكن، في نهاية المطاف «لا بد من المواجهة»، تقول وكأنها تبرّر وجودها هنا، في «بيت والدي».

تحني الرأس إلى الأسفل وترشق كلماتها كأنها هلوسات «متل اللعبة. كان بيتنا على العاشر وصار على الأول». لم تنس الشابة. 6 سنواتٍ لا تكفي لنسيان 13 سبقتها. فزينب لا تزال إلى الآن تعيش «نوبات بكاء قاتلة»، والبيت الذي أحبت أن يكون كله «مطلياً بالأبيض ومفروشاً بألوان مفرحة»، لم يعوضها الغياب كثيراً. لكنها اليوم اعتادت قليلاً على الوجود هنا، على عكس المرة الأولى التي دعيت فيها «لتسلّم مفتاح المنزل». بكت كثيراً وهي تفتح باب بيتها. أول ما فعلته لحظة دخولها أنها وقفت على الشرفة تتأمل «المجمع من فوق». لم تجد شيئاً منه. حالها كحال الكثيرين الذين فقدوا «الروح» فيه. عادت إلى غرف البيت، فلم تجد فيها هي الأخرى شيئاً. ديكور بسيط غيّر الذكريات، لكنه لم يمحها «صحيح أن التغييرات التي طرأت على البيت أنستني شكل بيتي القديم، لكني في كل حين أعيد ترتيبه كما كان».

تغيير بسيط، أو «تحسين»، بلغة مهندسي المشروع. لكن هذا التغيير، البسيط، شوّه الروح بالنسبة إلى عائدين كثر. حتى المحيط لم يعد كما هو، إذ كان الفاصل بين المبنى والآخر طريقاً، لا حديقة، تقول فاديا فتوني. والتسميات كذلك «لم تعد أليفة»، فقد صارت المباني هناك تعرف بالبلوكات: أي. بي. جي. والبيوت فقدت الروح أيضاً، لم تعد أبوابها قريبة بعضها من بعض، بل بات لكلّ واحدة منها ممرّ، تتابع فتوني. في الشكل «كان البيت أقرب إلى الطريق، ومن الداخل كان أوسع وأجمل». أما اليوم «فلا شيء يذكّرنا بالقديم»، والأهم من كل ذلك لا ذكريات «ولا زاوية تذكرني بشيء، عم نرجع نركّب ذكرياتنا». لم يبق لها من القديم إلا «طنجرتان. هربنا وكان فيهما طعام فحملتهما على عجل». وبعد سقوط المبنى «وجدت ثوباً لي، وقميصاً لزوجي ومنديلاً لابنتي. كانت ممزقة جميعها. احتفظت بها لسنوات قبل أن أرميها بعدما طلبت مني ذلك».

هذه الشابة التي بات لها من العمر 20 عاماً، لم تتقبل إلى الآن بيتها الجديد وأغراضها الجديدة «فلشدّة تعلقها بكل ما هو قديم طلبت مني أن اشتري لها ثياباً كالتي كانت لديها في البيت». شيء واحد لم يستطع أحد في المجمع شراء شبيه له هو الصور. كل الصور: الطفولة والزواج والخطوبة واللحظات الطارئة، تركوها في البيوت لأنهم كانوا موقنين بأن البيت لن يقع. لكن بعد السقوط، حاولوا نبش بعضها من تحت الركام، ومن لم يحظ بهذه النعمة جمع صوره من الأقارب إن وجدت، أو من «استديوهات التصوير».

 

وماذا عن الحياة التي دكّت قبل 6 سنوات؟ هذه الأخرى لم تعد مع عودة السكان التي بدأت مطلع شباط الماضي، حيث معظم المحال الداخلية للمجمع، والتي يفوق عددها الثلاثين، مذيلة بعبارة «برسم الإيجار». لا زحمة «إجر»، ولا صباحات تشبه ما مضى «وقت كان أبو أحمد يجمعنا على القهوة قبل التوجه إلى أعمالنا». والأسباب كثيرة خلف هذه التغيرات، منها «انشغال الناس وتغيّر أحوالهم النفسية»، يقول علي فوعاني، مسؤول اللجنة المركزية في المجمع. أو لأن «الجيران تبدّلوا، فمنهم من كان مستأجراً، ومنهم من أسس حياته خارجاً وأجّر بيته هنا، ومنهم من استشهد»، تكمل فتوني. استشهاد بعض أبناء المجمع لم يمرّ من دون أثر. غالبية الذين راحوا في الحرب كانوا «متل الدينامو هنا»، يقول فوعاني، مستذكراً علي نور الدين «الاجتماعي والخدوم» وأبو أحمد التيراني وحسّان «المحب»... هؤلاء الذين لم يبق منهم إلا الصور التي باتت تدل إلى بيوتهم.. فبدل أن تسأل في المجمع عن بيت شهيد، انظر إلى «الإنترفون» تجد عبارة الشهيد قبل اسمه، أو إلى مداخل البيوت حيث صورهم معلقة.

كان كل شيء «غير»، حتى العلاقات كانت أكثر حميمية، ربما «لأننا لم نكن قد كبرنا»، فستّ سنواتٍ كافية للشعور بالكبر. ثمة شباب تزوجوا، ومنهم محمد نور الدين الناجي الوحيد من عائلته. أما من كان طفلاً فقد بات مراهقاً وشاباً وأسس صداقات جديدة خارج الحي، كما فعل علي فتوني «ولا يوم ببقى بالبيت». هكذا، فقد الساكنون الحميمية والحكايات.

الداخل إلى المجمع اليوم يلاحظ هذا الفارق. تغيّر شكل المباني، وإن بات «أكثر أناقة»، وتغير العدد أيضاً، فمساحة الخمسة آلاف متر مربع التي كانت تضم 8 مبان، بات عليها اليوم 5 فقط. أما الثلاثة المتبقية، فقد عمل مشروع وعد لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية على شراء مساحة من الأرض مقابلة للمجمع، والبناء عليها. في القطاع الجديد، عادت بعض العائلات، لكن ما يجمع بعض هذه العائلات هو أنها هربت من ذاكرتها التي تكوّنت في المجمّع القديم. منهم من دفع «زيادة» لأن لا طاقة له على البقاء حيث كانت «العائلة كاملة»، تقول آمال رمضان. وهو ما فعله محمد نور الدين، الشاب الذي فضل الابتعاد علّه ينسى، وإن كانت الصور الخمس المعلّقة في محله تدل إلى أن «النسيان صعب»، يقول جيرانه. الهاربون كثر، وإن كانت الأسباب مختلفة، فمن هرب من ذاكرته لا يشبه أبداً من هرب خوفاً من.. «اليورانيوم»، فإحدى السيدات ــ التي نسيت رمضان اسمها ــ تركت البيت في المجمّع لأنها خافت «من الأمراض التي يمكن أن يسببها يورانيوم الصواريخ». وثمة هاربة أخرى من «الأشباح». وتروي فتوني حكاية عن «العمال الذين كانوا في الطابق السفلي الثالث وخرجوا ليرووا للسكان كيف رأوا أناساً بلباس أبيض، متل الملائكة».

كل هذه الحكايا التي نسجت لم تمنع الغالبية من العودة، إذ تقدّر وفاء حمادة، العائدة إلى محلها منذ 3 أشهر أن «نحو 90% من السكان رجعوا». تبدو «متأكدة» من النسبة، مشيرة إلى أنه في البلوك حيث يوجد محلها «عاد أكثر جيراني». وهو ما قدّره الآخرون في البلوكات المتبقية.

ثمة شيء لم يتغيّر هو «عقل الناس الأمني»، يقول أحد «شباب الحزب»، كما يحلو له التعريف عن نفسه. فهنا، الناس لا يسمحون بدخول الغرباء إلى المنطقة، ومنهم «أم علي». هذه السيدة الستينية التي تزجي نهاراتها في الباحة المواجهة للمجمّع، لم تسمح لنا بالدخول قبل إحضار «شاب من الحزب». خوف تلك السيدة كخوف كثيرين هناك من غريبٍ قد لا تكون «نيته طبية»، وهو ما دفع بكثيرين آخرين إلى التزام الصمت والاكتفاء بإجابات بسيطة لا تكوّن انطباعاً. وهو مشروع في حيٍ صار تراباً بـ«إخبارية»، يختمون.


Script executed in 0.19523811340332