أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

وادي الحجير: حقل ألغام.. مقبرة دبابات.. ومحمية طبيعية

الثلاثاء 14 آب , 2012 02:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 10,292 زائر

وادي الحجير: حقل ألغام.. مقبرة دبابات.. ومحمية طبيعية

 العتمة كانت ماحقة، وأضواء السيارة تشق الطريق بصعوبة أمامها، وتبحث عن المنعطفات كما يبحث شرطي عن دليل بمصباح يدوي. كل شيء بدا على ما يرام في تلك الليلة، إلى أن لمح بسرعة خاطفة شيئاً يعبر أمام مصابيح السيارة. طيف مرّ بسرعة، ولم يمر. لمحه، ولم يستطع تدارك الاصطدام به. حدث كل شيء في لحظة واحدة. اصطدمت السيارة الرياضية الحديثة الطراز بالجسم الغريب، وانفتحت فيها بالونات الهواء المعدة للحوادث. بدا الأمر انفجاراً، أو لَغَماً أرضياً، لكن لم يكن هناك نار، ولا تحطم زجاج. داس على الفرامل بقوة وتوقفت السيارة بعدما انعطفت وتجاوزت حدود الطريق لتصطدم بلوحة حديدية تحذر من وجود ألغام.

لم يعرف بماذا اصطدم. لكنه وجد دماً على مقدمة السيارة التي شوهت بالكامل. لا بدّ من أنه ضبع، قال في نفسه، أو خنزير بري، وقد سبق له أن سمع من كثيرين عن مرور قطعان من الخنازير البرية في الوادي وعلى إسفلت الطريق. لكن الخنازير بطيئة، قال. لا بد إذاً من أنه ضبع أو كلب أو حيوان كبير وسريع، حتى يفعل ما فعله بالسيارة. زوجته استفاقت كأنما من كابوس. استفاقت لكنها بقيت نائمة. فتحت الباب في نومها، وفي نومها شردت في الحقول. راح يصرخ بها بأن تعود، ويطمئنها إلى أن شيئاً لم يحدث. ركض خلفها عندما فشلت محاولاته في ردعها، أمسك يدها، فاستفاقت، وعاد بها في العتمة، وقلبه ينبض خوفاً من اللوحة التي قرأها. هل كانا حقاً في حقل ألغام؟

كانت الساعة نحو الثانية بعد منتصف الليل. المكان كان وادي الحجير. الوادي الشهير الذي اعتبر مقبرة للدبابات الإسرائيلية في حرب تموز. قام الكويتيون عبر «الصندوق الكويتي للتنمية»، بعد الحرب، بشق طريق وتزفيته داخل الوادي يصل إلى قرى مختلفة في منطقة بنت جبيل، من طريق القعقعية. الطريق ممتازة وتختصر المسافة على قاصدي قراهم، وهي تمر في واد، يعدّ من الأجمل طبيعياً في لبنان، وقد جرى تصنيفه من مجلس النواب قبل سنتين بأنه محمية طبيعية. غاباته تذكر بالغابات الأفريقية أو الأميركية. أشجار كثيفة في كل مكان، يقال إن خلفها وتحتها وفيها يختبئ مقاومون أذاقوا الإسرائيليين الأمرّين في حرب تموز. لا يمكن أن تتأكد من الأمر. لا يمكن أن تعرف شيئاً عما يدور في الغابات. وحدها الطريق واضحة المعالم هناك، لكنها تثير الرعب في قلوب كثيرين في الليل. كثيرون يتفادون سلوكها في ساعات متأخرة، مع أن بينهم من يطمئنون إلى وجود المقاومة هناك، لكن فكرة المرور ليلاً في تلك الطريق تبدو جنونية، خصوصاً مع غياب أي إضاءة عليها، وغياب الإرسال عن الهواتف الخلوية. بمعنى أن أي عطل يصيب السيارة في الوادي، في ساعة متأخرة، كما حدث مع حسن، يعني الانقطاع الكلي في ذلك الوادي عن العالم الخارجي. 

 

الخطر

 

نهاراً، يختلف الأمر تماماً. الوادي من أجمل الأمكنة التي يمكن أن يمر بها المرء في سيارته. رحلة سياحية طبيعية بامتياز. والمفارقة في الوادي أن على جانبي الطريق الذي تعبره، تنتشر لوحات وضعها «اتحاد بلديات جبل عامل»، تحذر من تجاوز حدود الطريق لأنها بقعة خطرة مليئة بالألغام. والمفارقة أيضاً، أن كثيرين يقومون بنزهات مع أسرهم في هذه البقع خلف حدود الطريق وخلف اللوحات المحذرة من الألغام، فيفترشون الأرض الخضراء تحت الشجر إلى جانب ساقية ماء جارية تلتحم في النهاية بنهر الليطاني، وتفسير ذلك، وفق بعض هؤلاء، أن لوحات التحذير هذه وضعت لتخويف الناس من عدم الإيغال في الدخول في غابات الوادي حيث توجد مواقع للمقاومة كما يشاع، والمنطقة هناك كما هو معروف، مندرجة ضمن القرار 1701، أي أنها تقع جنوب نهر الليطاني، وتجوبها أحياناً دوريات لـ«اليونيفيل». لكن كثيرين لا ينصحون بتبني هذا التحليل الذي لا يستند إلى دقة ومسؤولية، فالوادي كان مليئاً بالألغام والقنابل العنقودية وعملت «جمعية أجيال السلام» على تنظيف جزء كبير منه من قنابل الموت، لكن الخطر لا يزال موجوداً، لذلك وضعت لوحات التحذير. 

إلى النزهات في الفسح الطبيعية العامة في الوادي، ينشط فيه نهاراً، وفي الصيف خصوصاً، المتنزه العمومي الذي استحدثه اتحاد البلديات، وهو عبارة عن برك تغذيها ينابيع طبيعية مدعمة بحيطان حجرية تراثية، وتعلوها مجموعة من القناطر.

ليست النزهات وحدها الشائعة في الوادي نهاراً، بل الصيد أيضاً، ويقال إن البعض يصطاد، إلى الطيور، الخنازير البرية، وتبدو آثار الصيد واضحة في عبوات الذخيرة الفارغة، وفي طلقات نارية أصابت لوحات التحذير من الألغام. والمفارقة الأغرب في الوادي، التي يلاحظها كثيرون من عابريه نهاراً، هو وجود جامع في منطقة غير آهلة بالسكان، وهو موجود، على ما يشاع، قبل افتتاح الطريق، ويقال إنه بني هناك من أجل أن يصلّي فيه المقاومون، وهناك أخبار أخرى عن أنه بُني عن روح أحد الشهداء الذين استشهدوا في مواجهات مع العدو الإسرائيلي في الوادي. 

 

استثمار آمن

 

بالعودة إلى ما حدث مع حسن. انتظر تلك الليلة أكثر من ساعة، وهو يحاول الاتصال من هاتفه الخلوي، لكن الإرسال كان معدوماً. زوجته جلست في السيارة خائفة، أقفلت الباب، وهو وقف في منتصف الطريق، لا يعرف ماذا يفعل، راح يتمنى مرور عابر سبيل في هذا الليل الحالك والموحش. 

بعد وقت مرّ بطيئاً كدهر، أسعفه الحظ، وأرسل الله له سيارة لاحت أضواؤها في البعيد، فكان أحد أبناء قريته عائداً من بيروت بسيارة قديمة، فأوقفه بعدما سدّ الطريق وراح يلّوح بيديه، كما يلوّح غريق، فأقله وزوجته إلى القرية وعاد في اليوم التالي مع شاحنة لنقل السيارة المعطّلة. منذ تلك الحادثة وحسن لا يسلك طريق وادي الحجير ليلاً، حتى طرأت بعض التغييرات على الوادي أخيراً.

فقد افتُتح في منتصف الطريق التي تشق الوادي متنزه ومطعم ومسبح، وهو مشروع ضخم بتمويل كبير، أقدم عليه احد المستثمرين «الشجعان» في منطقة يصعب توقع نتيجة أي رهان عليها. الفكرة بدأت، وفق صاحب المشروع الذي يمضي معظم وقته في المكان مشرفاً ومستقبلاً الناس بلباس رياضي أنيق، عندما أقدم مع مجموعة من أصدقائه على تأسيس مكان يمضون فيه الوقت في الصيف، حينما يزور لبنان من البرازيل حيث يعمل. وبما أنه يمتلك أرضاً في الوادي، تابعة عقارياً لبلدية الجميجمة، قرر أن يبني عرزالاً هناك. وتطورت الفكرة شيئاً فشيئاً إلى مشروع استثماري بعد تشجيع الأصدقاء، وبعدما تأكد له أنها «منطقة آمنة جداً»، لدرجة أنه في فترة العمل على المشروع، كان العمال يتركون عدّتهم وآلياتهم ومواد البناء في الأرض وينصرفون، و«ولا مرة انسرق برغي». المشروع اليوم يلفت كل من يمر في الوادي نهاراً، وليلاً يشعّ كبقعة ضوء في بحر هائل من الظلام. 

كيف تجرّأ صاحب «العرزال» على المغامرة؟ يقول إن المسائل لا ترتبط بوادي الحجير فحسب. هناك مشاريع سياحية وترفيهية كثيرة تفتتح عند الشريط الحدودي وفي منطقة الوزاني، وكلهما يمكن أن تكون مغامرات في ظل الوضع في المنطقة، «لكن ربط أي عمل باحتمالات الحرب سيجعلنا مكتوفي الأيدي»، يقول. قرر أن يخوض التجربة، وليس الوضع الأمني وحده ما يهددها، بل أيضاً تفاصيل اجتماعية كثيرة قد تؤثر، خصوصاً أنه قرر أن ينظم أعراساً في «عرزاله»، غير آبه بردّات الفعل التي قد تأتي قاسية من «قوى الأمر الواقع» هناك، والتي تربطه بها علاقات جيدة، إذ حضر نواب عنها افتتاح عرزاله. اليوم لا يضع الأغنيات في المطعم، بشكل عام، لكنه سيستضيف الأعراس، وسيكون هناك غناء ورقص حتى ساعات متأخرة: «لدي في الأسابيع المقبلة خمسة حجوزات لأعراس، أحدها في عيد الفطر». قيل له إنه بذلك ينتهك «حرمة» الوادي. فهو واد يعتبره كثيرون مقدساً نظراً للبطولات التي سطّرت فيه، ونظراً لسقوط شهداء كثر فيه دفاعاً عن الأرض وحماية لاستقرارها الذي ينعم فيه الجميع اليوم، لكن ذلك لا يقنعه في مسألة الأعراس، لأن التحرير كان عرساً، والفرح، خصوصاً في المناطق المحررة، لا يجب أن يكون ممنوعاً. يقول إنه يحترم كثيراً رغبات بعض الناس، وهو يحترم طبعاً الطابع الاجتماعي للمنطقة التي ينتمي إليها. فهو مثلاً لن يقدم الكحول في مطعمه، وليس وارداً أن يفتح مسبحه للراغبات في السباحة بثياب البحر. ففكرة المسبح جديدة وغريبة في تلك المنطقة، وتلقى قبولاً واسعاً خصوصاً من العائلات التي تحضر أطفالها للسباحة فيه. لكن ليس النساء، وليس في ثياب البحر. هذا لن يحدث طبعاً، يؤكد، لأن المسبح على الطريق العام، ولأن المجتمع هنا لن يتقبل أمراً مماثلاً. لكنه، في الوقت نفسه، لا يريد لمشروعه أن يتخذ طابعاً حزبياً أو دينياً، كما حدث مع متنزهات ومشاريع كثيرة في المنطقة. يريده مشروعاً تجارياً يستقطب القريب والغريب، ويشدّ السياح إلى المنطقة التي يجب أن يزورها الناس كافة للتعرف إلى المكان الذي حوّلته المقاومة إلى مقبرة «الميركافا».

اليوم يأتي كثيرون إلى «العرزال» من مناطق مختلفة وخصوصاً من منطقة صور، وكثير من عابري السبيل في الوادي يلفتهم المكان فيتوقفون للاستراحة أو للسؤال، ثم يعودون في مرات أخرى. ويقصده كثيرون ممن تتعطل سياراتهم في الوادي ليلاً. بات لهؤلاء مكان يأنسون إليه ليسلكوا الطريق المظلمة، فضلاً عن محطة محروقات افتتحت في مكان آخر على طريق الوادي، كمشروع تجاري يتوقع له النجاح، لكثرة سالكي طريق «وادي الحجير».. الموحش!


Script executed in 0.17314791679382