" فلم نعان يوماً من قلّة العمل أو الرزق، ولا من أي حسابات طائفية أو مذهبية، رغم أملنا الدائم بالعودة الى لبنان اذا ما تحسّنت أوضاعه، فحافظ معظمنا على الهوية اللبنانية ونقلها الى الأبناء"، كما يقول أبو علاء القادم مؤخراً من مدينة درعا السورية، الى بلدته الأمّ بنت جبيل مع 38 أسرة، قرّرت " اللجوء المؤقت على أمل العودة". " لم نكن نتخيّل يوماً أن نعود الى بلدتنا بنت جبيل، هرباً من الأوضاع الأمنية والاقتصادية فحلمنا أن نعود بملء ارادتنا الى المكان الأكثر أماناً واستقراراً" بحسب أبو علاء. لم تشهد بنت جبيل وحدها عودة أبنائها وأحفادهم من سوريا، بل حدث ذلك في قرى وبلدات مختلفة مثل شقرا والطيبة والغازية ومعروب وغيرها..
تلك العائلات التي تحرص جيداً على عدم الظهور الاعلامي، خوفاً على من بقي من أبنائها وممتلكاتها هناك، تعيش اليوم بين نارين، نار العودة مجدداً الى سورية لما تنتظره بسبب التهديدات التي واجهتهم، ونار البقاء في الجنوب حيث تضيق بهم سبل العيش وشحّ الخدمات والرعاية في ظلّ الغلاء الفاحش للمواد الغذائية وانعدام فرص العمل وانقطاع المياه والكهرباء. تتحدث أم هشام، أسم مستعار، القادمة مع أربعة من أبنائها من مدينة حلب السورية الى منزل أخيها في شقراء، عن الأوضاع المعيشية الصعبة في حلب بسبب انقطاع الغاز والطحين والخبز وجشع التجّار، حتى باتت معظم العائلات المتواضعة تعتمد على ما تبقى من التموين المنزلي، بانتظار ما هو أعظم، ما اضطرّها الى ترك زوجها وابنها هناك على أمل الّلحاق بها وأولادها فيما بعد. " فالخوف من القتل على الهوية أو الانتماء للنظام السوري هو السبب الحقيقي اضافة الى الوضع الاقتصادي".
وصلت أم هشام الى منزل أخيها المتواضع لتجد شقيقتها الصغرى زينب، التي كانت تقيم في بلدة " قارا" السورية على الحدود مع بلدة عرسال البقاعية، قد سبقتها الى هناك مع أولادها أيضاً، زينب تؤكد " خوفها على أولادها من القتل، ليس من أبناء بلدة قارا، بل من الغرباء الذين دخلوا البلدة، التي كان عدد سكانها 23 ألف نسمة، ليقارب اليوم 100 ألف نسمة، فمن بين هؤلاء من لا يرحم، ويتعامل على أساس الانتقام من أي شيعي أو موالي للنظام"، وتشير الى " الغلاء الفاحش للمواد الغذائية، وارتفاع سعر قارورة الغاز الذي وصل الى 1700 ليرة سورية، وانقطاع الخبز، فالمسلحين باتوا يحتكرون شراء المواد التموينية والبنزين والغاز ومن ثم يبيعونها للأهالي في السوق السوداء، وهم يفرضون على الجميع المشاركة في الاعتصامات وتشييع القتلى والاّ تحرق منازلهم ومحالهم التجارية وتهدّد حياتهم بالقتل". زينب وشقيقتها وأولادهن يعيشون اليوم حالة تقشّف في منزل أخيهن، ولم تصل اليهن أية مساعدة تذكر رغم وضع أخيهن الاقتصادي الصعب. في بنت جبيل الوضع مختلف كثيراً، فالبلدية وحزب الله وهيئات المدينة المختلفة تعاونوا على تقديم ما تيسّر من المساعدات للعائلات ال 38، فاستأجروا لهم الشقق السكنية، بعد تأمين الأثاث اللاّزم ( لكلّ شقة: برّاد ماء، وغاز وتلفاز وفرش ومقاعد للجلوس)، فيشير مختار بنت جبيل نمر علي بيضون الى أن " هذه العائلات حصلت أيضاً على مساعدات غذائية مختلفة في شهر رمضان المبارك، فهؤلاء من أبناء بنت جبيل ومن عائلاتها: داغر وشرارة وحوراني ومجير.."، أما المختار محمد عسيلي، الذي كان على تواصل دائم مع هذه العائلات منذ العام 2003، فيبين أن " حزب الله بالتعاون مع البلدية ولجنة الوقف ومكتب الخدمات الاجتماعية التابع للمرحوم السيد محمد حسين فضل الله وعدد من أبناء بنت جبيل ومؤسساتها اشترى قطعة أرض كبيرة لهؤلاء كي يتسنى لهم بناء المنازل عليها، اضافة الى تقديم المساعدات المختلفة واستئجار المنازل، وتأمين ما تيسّر من فرص العمل للشباب".
ويذكّر أن من بين القادمين من ينتمي الى " الطائفة السنية الذين تربطهم علاقة مصاهرة مع أبناء بنت جبيل، فلا فرق بين شيعي أو غير شيعي، أو سوري أو لبناني، فهؤلاء قدّموا لنا المساعدة في حرب تموز ولا ننسى أفضالهم رغم قلّة الحيلة". ويشير الى أن " 75 فرداً من آل الصفدي أقاموا في بلدتهم الطيبة في قضاء مرجعيون والتي هجروها منذ أكثر من 50 سنة"، ويدعوا عسيلي الشعب السوري الى " عدم التمييز الطائفي والمذهبي والسياسي، لأن في بنت جبيل وحدها نحو 1200 عامل سوري مقيّد ومعظمهم من مؤيدي المعارضة السورية، ولم يتعرّض لهم أحد من أبناء البلدة، بل على العكس جميعهم يعملون هنا ولا يتعرّضون للمضايقة، حتى أن بعضهم بات يصرّح علناً، وبصلابة وأحياناً باستفزاز، بانتمائه الى المعارضة". في شقة صغيرة ( غرفتان ومطبخ صغير ومرحاض) يعيش أبو أيوب مجير منذ ثلاثة أشهر مع 10 أفراد من أولاده وأحفاده وصهره السوري الجنسية، بعد أن تعرّض وعائلته للتهديد المتكرّر وشاهد العديد من جرائم القتل الشنيع، " لقد شاهدت المسلّحين وهم يجلدون أحد أبناء الحيّ الذي أسكن فيه في بلدة داعل في محافظة درعا السورية، ثم يطلقون الرصاص عليه ثم يقطّعون جسده بالسكين"، ويقول " لقد سبق للعديد من المعارضين السوريين أن تظاهروا تحت منزلي وشتموا السيد حسن نصرالله استفزازاً، وهدّدوا باعتقال ولدي، وسرقوا سيارتي وبعد مجيئي الى هنا أقدموا على سرقة المنزل وتكسير أبوابه". لكن مجير يعيش اليوم ضائقة مالية ويبحث عن العمل ولا يجده، " فالحدّ الأدنى من المعيشة يتطلّب يومياً أكثر من 50 دولار، ونضطرّ الى شراء المياه، حتى أن المساعدات الغذائية كنا نحصل عليها في شهر رمضان فقط، لذلك كل همي اليوم ايجاد فرص العمل لي ولصهري، والاّ مضطرّ للعودة الى سورية كما فعل عمّي منذ أيام". وعن وحشية المقاتلين في سوريا تتحدث امرأة من بنت جبيل كانت تقيم في مدينة حلب عن " امرأة خبأت ولديها الشابين داخل منزلهما، عندما اقتحمه المقاتلين بحثاً عنهما، لكن احد الملثّمين شاهدهما وأوشى بهما فكان مقتلهما داخل المنزل"، تقول المرأة " سرعان ما قامت والدتهما بسحب القناع عن الملثّم فتكون الكارثة؟!، لقد كان أخاها فتعظم المصيبة".
في مدينة داعل في محافظة درعا تعيش أسرة أبو مجير منذ عشرات السنين، التي اندمج أفرادها في مجتمعهم الجديد وحصلوا على مراتب علمية لافتة، ويزيد عددهم على 200 شخص، كما يعيش في المحافظة عينها عدد كبير من عائلات بنت جبيل أمثال بزي وحيدر وبيضون والصباغ وسعد، حتى أن رئيس نقابة الأطباء في المحافظة من آل حيدر، اضافة الى عائلات كثيرة من بلدات عيترون والعديسة والطيبة والخيام وشبعا وتبنين والشهابية ومليخ وكفركلا.. وفي منطقة بصرة في دمشق تسكن عائلات كبيرة من آل خليفة وفنيش وهؤلاء جميعهم لا يزالون على تواصل دائم مع أبناء قراهم في الجنوب منذ الانتخابات البلدية في العام 2000، والجزء الأكبر منهم لديهم هويات لبنانية. ويشير المختار محمد عسيلي الى أن " 15 أسرة من بنت جبيل تعيش في حيّ الست زينب في دمشق، تعرّضت في الأشهر الماضية لتهديدات واستفزازات بسبب انتمائها المذهبي، وكتبت شعارات تهديد على منازلها من قبل ملثّمين وهم اليوم يتخوّفون من البقاء في منازلهم رغم عودة الأمن الى الحيّ".