أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

صناعة المكانس في الغسانية على طريق الزوال

الأربعاء 05 أيلول , 2012 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 14,130 زائر

صناعة المكانس في الغسانية على طريق الزوال

يضع الرجل السبعيني أمامه إبريقاً من الشاي، ويترك بضعة أكواب فارغة، لزوار مفاجئين، تجلبهم الصدفة لحديث معه، يملأ به وقت فراغه ويعود إلى أيام عزّه، حيث كان المعّلم الأول في صناعة مكانس القش. شريف نور الدين من بلدة الغسانية تعوّد منذ زمن أن الزوار يقصدونه لأجل مكنسة ذات جودة عالية. فالحرفة كانت فنّاً بالنسبة إليه، كانت باباً للرزق مفتوحاً على كل أسواق لبنان، فـ «لا يوجد بلدة لبنانية أخرى تنفرد بهذه الحرفة»، التي ميزتها «مكنسة غزير»، الماركة المضمونة في نوعية المكانس. 

يروي تفاصيل المكنسة الأولى، ويعود إلى ما يقارب العام 1940، حيث كان أحد أبناء البلدة من آل عطوي يعمل في الأشرفية في بيروت. وفي حين كان يأتي بطعام الغداء لمعلمه، كان يسترق النظر لحرفة سرية يعملون عليها، أحياناً كان يراقب التفاصيل حتى حفظ فنون الحرفة. وبدأ يجمع القش من على ضفاف الأنهر، وسرعان ما انتقلت إلى كل بيوت البلدة. فالغسانية لم تعرف نهوضاً عمرانياً لولا تلك الحرفة، التي مارسها الصغير والكبير. كما يؤكد أبو حسين مراراً، الرجال والنساء على السواء، كانوا يجتمعون كل صباح ليحولوا أكوام القش التي زرعوها في حقول البلدة أو تلك المستوردة من أسواق سوريا، والعراق ومصر، واليونان وهنغاريا ويوغسلافيا، مكانس. 

كانت لصناعة مكنسة القش تعليمات عديدة وأدوات مختلفة تبدأ من «المَيبر»، و«الزيار» و«المطرقة الخشبية»، وصولاً إلى الخيوط الملونة التي تضع اللمسات الأخيرة عليها، ولا تستغرق صناعة المكنسة الواحدة أكثر من خمس دقائق بين يدي المعلّم الحرفيّ. 

أبو علي عمل أكثر من ستين عاماً في الحرفة، علّم أولاده، وهاجروا إلى الخارج. واشترى منزلاً وأراضي، فكانت لهذه الحرفة ذكريات يتحسر عليها: «حالياً ما في بالبلدة أكثر من أربعة أشخاص يمارسون الحرفة، مكانس النايلون والتقليد ضربت السوق، وما بقى توفي. هيدي الحرفة صارت تراث بالغسانية مش أكثر». أحمد حمود ما زال يمارس الحرفة، ينشر مكانسه أمام منزله، أولاده يعملون معه، منهم من يساعده في الصناعة، ومنهم من يتولى عملية التوزيع في المناطق». لكن لا يعتمد عليها كمصدر رئيس للعمل. يقول «أصبحنا نستورد ليف الحمّام، ومكانس البلاستيك من مصر، ونسوقها مع مكنسة الغسانية، خصوصاً أن الجيل الجديد لا يميز الحرفة اليدوية من مكانس المصانع». ابنه علي يعرف السوق جيداً: «لا يزال للمكنسة عزّ عند تجار صيدا وفي مناطق الجنوب الحدودية، لكن مناطق أخرى دخلت إليها التكنولوجيا بقوة لم تعد تستعمل المكنسة، وأصبحت رمزاً للتراث».

لا يمكن المرور ببلدة الغسانية من دون أن ترى حبالاً نشرت عليها المكانس، أو أن تجد آثار القش منفوشة هنا أو هناك، حتى ذاكرة أبناء البلدة لم تتخل حتى اليوم، عن تلك المكنسة، ولكن الوقت كفيل باندثارها. فاطمة إبنة الخامسة عشرة، لا تعرف كيف تصنع المكنسة، ولا تريد أن تتعلم الحرفة. تفضل دراستها الأكاديمية على أن تعمل إلى جانب والديها، تقول: «كثير فيها تعب، أنا ما بقدر اشتغل هيك إشيا، حتى أخواتي ما حبّو يشتغلوها». تنافس المكنسة الهندية والصينية اليوم مكنسة الغسانية بعدما كانت المكنسة السورية المشهورة، في بلدة إدلب المنافس الأول لها، ما دفع بالكثير من الأسر إلى العزوف عن صناعتها وشراء المكانس الأجنبية والمتاجرة بها، لتتحول حرفة المكانس من صناعة فريدة إلى تجارة تستجدي بضع ليرات ربح تعيش منها العديد من الأسر، خصوصاً أن البلدة لم تتحول إلى حرفة أخرى أو زراعة أخرى، بل تغيرت أنماط العيش فيها ككل قرى منطقة ساحل الزهراني، أبناؤها هاجروا إلى أفريقيا وأوروبا، وبعض العائلات فتحت مشاريع عمرانية سكنية تدّر عليها أموالا سريعاً وبأقل تعب ممكن.


Script executed in 0.19212102890015