أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

«كلّن عندن سيارات»

الجمعة 07 أيلول , 2012 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 5,911 زائر

«كلّن عندن سيارات»

لدى سائقي سيارات الأجرة ما يزعجهم في رحلة عملهم اليومي؛ الطقس الحار وعدم القدرة على استعمال المكيّف لخفض الأكلاف. زحمة السير الخانقة يقابلها قلّة في عدد الركّاب. هذه العوامل وسواها كافية لجعلهم مقياساً حقيقياً عن وضع حركة السير في العاصمة، حتى صارت لازمتهم التي يرددونها «بات لكل لبناني سيارة؛ انظروا، إنها لا تحوي إلا شخصاً واحداً حتى!».

 

تختنق العاصمة بهياكل معدنية تضيق مساحة حركتها يوماً بعد يوم. حتى أصبح عدّها في المواقف أو على الطرقات كمحاولة عد النجوم في السماء، تنسى من أين بدأت ولا تعرف أين ستنتهي. ستغلبك بكثرتها. هل يمكن لبيروت أن تتّسع لمزيد من السيارات، أم هل تكمن المشكلة في المساحات المخصصة لركنها؟

السؤال غير منطقي بحسب مهندس النقل في مجلس الإنماء والإعمار إيلي الحلو، إذ لا تقاس الأمور على هذا النحو.

المشكلة الأساس في مكان آخر معروف، تم تداوله حتى بات لازمة مملّة: «غياب النقل العام». ويصبح التنظير عن عادات اللبناني المفرطة في البذخ لا قيمة لها أمام قرار سياسي بوضع خطة نقل عام حيز التنفيذ (راجع: http://www.al-akhbar.com/node/18251). قرارٌ لا يرادُ له أن يُتّخذ لاعتبارات خاصة بمنافع بعض أصحاب القرار المتحكمين بقواعد اللعبة. إذاً باتت السيارة كالهاتف الخلوي، أمراً ضرورياً لا مفر منه لتسهيل التنقل واتمام المهام اليومية، وخصوصاً أن خدمة سيارات الأجرة لا ترتقي إلى النجمتين في غالبية الأحيان.

بلغ عدد سكان لبنان عام 1994، 1,3 مليون نسمة بحسب دراسة لمجلس الإنماء والاعمار، ينتمي 410,000 منهم إلى بيروت الإدارية. في ذلك العام كان 50% من العائلات يمتلكون سيارة واحدة، فيما يملك 25% سيارتين أو أكثر. وسجلت الطرقات حينها 1,5 مليون رحلة بالسيارة يومياً، 55% منها فقط هي رحلات عمل، فيما كانت حصة النقل العام أقل من 10%. ويعزو الحلو السبب إلى ضعف التوازن بين مختلف وسائط النقل في ظل ازدياد متنام في الطلب على التنقل في مقابل تدني العرض المتوفر، ما دفع الفرد إلى تأمين تنقله بنفسه. ساعد على ذلك تدني كلفة اقتناء السيارة فكانت النتيجة عام 2009 أن بات لكل 2,7 فرد مركبة، وهي نسبة قريبة من تللك التي في الدول الصناعية المتقدمة، مقارنة بالعام 1970 حيث كان لكل 5,8 أفراد مركبة!

يتماشى هذا الرقم مع ملاحظة تدني عدد الاشخاص في سيارات الأجرة إلى راكب أو اثنين، وهو رقم قريب لعدد الركاب في السيارة الخاصة (1,9). في المقابل، تتحرك باصات النقل العام والخاص بنصف قدرتها الاستيعابية وهي نحو 13 راكباً. ويلفت الحلو إلى أن ضيق القدرة الاستيعابية للمدينة جعل فترة الذروة تمتد من السابعة صباحاً حتى السابعة مساء، فيما يجب أن لا تمتد عمليا أكثر من السابعة والثامنة صباحاً، والسادسة والسابعة مساء.

الحديث عن أزمة السير والنقل العام ليس بجديد، لكن الوقت لا يعمل لصالح المدينة والناس. التأخير تقابله زيادة في عدد السيارات، وبالتالي مزيدٌ من الاختناق. صحيح أن الناس يتكيفون مع الواقع ولا حول لهم ولا قوة لتسيير أمورهم، لكن كم لتقبل هذا الواقع أن يدوم؟ برأي الحلو تتمثل المشكلة في غياب الاستثمار والصيانة والتطوير منذ 20 سنة خلت، رافقها تبدلات جوهرية بمراكز الثقل الديموغرافية والنشاط الاقتصادي نتيجة النزوح، ما أدى إلى ارتفاع عدد المركبات من 60 ألفاً عام 1970 إلى مليون ومئتي ألف عام 2009. كما كانت تجزئة الحلول، من خلال التركيز على توسيع الطرقات وبناء الجسور في مقابل عدم تأمين نقل عام حضري، سبباً في «الاختلال، وانخفاض معدلات سرعة الانتقال من حوالي 30 كلم في الساعة إلى ما دون 15 كلم في الساعة، وبالتالي زيادة في معدلات التأخر حتى درجة اختناق التدفقات على الشرايين الرئيسية». بمعنى آخر، من يُسجن اليوم ساعة على الطرقات للوصول الى مكان آخر في المدينة، سوف يقضي ساعة إضافية في السنين القادمة.

يربط سائق سيارة الأجرة فادي المشكلة بتغيرات طرأت على المجتمع اللبناني. ويلفت إلى أن غالبية زبائن سيارات الأجرة كانوا من النساء، اللواتي أصبحن يفضلن اقتناء سياراتهن الخاصة تفادياً لتحرشات بعض السائقين، ولسهولة الشراء، والاستمتاع بالحرية.

اللهث وراء اقتناء سيارة له أسباب متسلسلة لدى الناس. فانتظار الباص ليس عملياً دائماً، وخصوصاً أن لا توقيت محدداً لمروره، عدا أنه لا يصل إلى كل مكان. أما سيارات الأجرة، «فتلف بك الكرة الأرضية»، بحسب مارك، الذي لم يتردد في شراء سيارة رغم راتبه الضئيل عملا بمبدأ «بدي اشتري راحتي». على الأقل، «يفضل أن يصل إلى عمله بأقل الأضرار». هي الحاجة إلى الوصول إلى كلّ مكان من دون تضييع الوقت و«نقّ» السائق والانتظار تحت الشمس أو المطر والتمتع بخدمة أفضل. الحلّ إذاً في النقل العام. أما اللجوء إلى توسيع الطرقات فهو أشبه بوقوع المخططين في شر أعمالهم، كونها حلولاً قصيرة المدى تؤجل الموت المحتم، ولا تفعل إلا أن تدرّ الربح للمتعهدين وتهدر المال العام بعلم المؤتمنين عليه. ويشرح مهندس النقل تمّام نقاش أن «العمل على توسيع الطرقات لن ينفع لأنه سيمنح المواطن مجالاً أكبر لاستخدام سيارته»، لا أكثر ولا أقل.

إضافة إلى غياب النقل العام، يبرز سوء تنظيم اللوحات الحمراء، يضيف نقاش، لافتاً إلى أن سيارات الأجرة هذه تعدّ «نظاماً خاطئاً لتنظيم النقل» ، موضحاً أن الفوضى سادت بعد الحرب الأهلية ودخلت سيارات خصوصية على خط نقل الركاب، عدا اللوحات الحمراء المزوّرة. ويزيد أنه في العام 1993، كانت هناك فرصة ذهبية لتنظيم عمل سيارات الأجرة من خلال تحديد مناطق عملها لكنها لم تنجح.

لا ينفي نقاش أن للسيارة درجة عالية من الإغراء، وباتت جزءاً من الـprestige، ووسيلة لجذب الفتيات، وتأمين النقل في الدرجة الأولى. عدّةٌ تستخدمها معظم المصارف في إعلاناتها عن قروض السيارات. ويلفت إلى أنه حتى في الولايات المتحدة وأوروبا، كان امتلاك سيارة أمراً مثيراً، إلا أنهم تمكنوا من تغيير مفهوم الناس تجاه النقل العام، بحيث لا يشعر المواطن بالدونية أو أنه أقل مرتبة اذا تخلى عن سيارته الخاصة.

وإلى أن يُتخذ القرار السياسي، إليكم كيف ستكون حال مدينة بيروت الكبرى: عام 2011، كانت تمر حوالى 5352 سيارة في ساعة الذروة صباحاً على الخط القادم من الدورة باتجاه بيروت. وإذا لم تُحل أزمة النقل، فسيصبح الرقم 6447 عام 2020، و8937 عام 2035، حتى بعد إنشاء الطريق الدائري حول مدينة بيروت الذي يصل الطريق الساحلي الشمالي باتجاه طرابلس بالطريق الساحلي الجنوبي باتجاه صيدا.

 

تحقيق النقل العام

 

يتطلب الانتقال من الوضع الحالي إلى الوضع المستهدف وتأمين نقل عام، بحسب مهندس النقل تمام نقاش، إزالة التشابك في الصلاحيات مركزياً بين وزارة الداخلية ووزارة الأشغال العامة والنقل، ومحلياً في ظل غياب دور البلديات في ما يتعلق بتراخيص المركبات وتنظيم قطاع النقل وتوفير النقل العام. يضاف إلى ذلك تمويل قطاع النقل من مصادر محددة وبمقادير ثابتة تسمح بالتخطيط الطويل المدى للتنقل، على شكل صندوق النقل (تكمن صعوبة التطبيق الأساسية في عدم سماح القوانين الحالية بتخصيص مدخول معين لتغطية انفاق محدد)، وتوضيح من له حق منح امتيازات المقل العام، يرافقها تنظيم العمران المحابية للنقل العام، ومعالجة الخلل في التوزيع الجغرافي لخدمات المركبات المرخصة.

ليس هذا كل شيء. يلفت نقاش إلى وجوب سحب المركبات ذات اللوحات الحمراء المزورة، إزالة التعديات على الأملاك العامة السككية والطرقية، تأسيس أجهزة للتخطيط العمراني المستدام في المناطق الحضرية، واستنهاض من يمكنه أن يجعل من قضية النقل العام شغله الشاغل!


Script executed in 0.1783618927002