أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

اشتباكات بيروت: الجيش يتصدى والطريق الجديدة حزينة

الثلاثاء 23 تشرين الأول , 2012 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 7,749 زائر

اشتباكات بيروت: الجيش يتصدى والطريق الجديدة حزينة

 

سليم قويدر رجل ثلاثيني، ذو لحية كثّة طويلة تصل إلى منتصف عنقه. الرجل فلسطيني، وهو ابن عمّ أحمد، الشاب الذي قُتل صباح أمس في اشتباكات قصقص. الساعة الثالثة والنصف عصراً: سليم يحاور الضابط عند مدخل الطريق الجديدة، من ناحية «أرض جلّول»، وإلى جانبه رجل فارع الطول غارق في جلبابه الأبيض اللون. 

دوريات الجيش منتشرة بالقرب من «مسجد الخاشقجي» في قصقص. باحة المفاوضات مقفرّة من المدنيين المارة، ومن مراسلي وسائل الإعلام المرئية. ثمة مجموعات فلسطينية يقف أفرادها خلف مستوعبات حديدية. لحاهم طويلة، لكننا «لسنا سلفيين، ولسنا مسلّحين»، يقولون لـ«السفير». 

سليم ينتظر وصول «التلفزيون المباشر»، لكن عبثاً. الباحة أشبه بساحة حرب منهكة. يتقدم رجل من مخابرات الجيش باتجاه الدوريات العسكرية، رافعاً سبابة يده اليمنى إلى الأعلى، فيرفع العسكر بنادقه إلى السماء، وتتقدّم الآليات العسكرية نحو الطريق الجديدة. 

السيارات المدنية ذاتها، بزجاجها الأسود الداكن، كانت تقف بمحاذاة جسر الكولا، عند الساعة الثانية والربع. ناصية الشارع الرئيس للطريق الجديدة مقفلة بمستوعبات النفايات المحترقة والحجارة المتكدسة فوق بعضها. تصل دراجة نارية من الشارع. 

يترجل سائقها متوجهاً إلى إحدى السيارات الأمنية. يهمس بأذن الضابط ببضع كلمات، فيلوّح الضابط بيديه للعسكر المتموضع في الآليات العسكرية. تنطلق ثلاث سيارات رباعية الدفع في اتجاه المستوعبات المحترقة والحجارة المتكدسة، يتقدمها سائق الدراجة النارية. 

يقف شرطي سير في القرب من الجسر، مراقباً دخول آليات الجيش. يثبت نظارته الشمسية بتؤدة سائلاً: «لو كان مندوبو التلفزيونات هنا، فهل كانوا سيقولون إن الجيش يقتحم الطريق الجديدة، ونشهد الآن، أعزائي المشاهدين، اشتباكات عنيفة؟». 

بهدوء، تدخل دوريات الجيش المنطقة، بينما كان بعض الشبان ينتزعون أعلاماً موسومة بعبارة «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، ثبتت على أعمدة الكهرباء، بلونها الأسود القاتم وحروفها البيضاء الباهتة. «الدخول إلى الطريق الجديدة، الآن، خطر، حتى لو كنت من تلفزيون المستقبل»، يقول مصوّر إحدى وكالات الأنباء العالمية محدثاً نفسه بصوت عال. يغادر الشاب جسر الكولا. 

الطريق الجديدة مكفهرة، حزينة. قاطنوها الأصليون في بيوتهم، نوافذها مغلقة، وشوارعها منهكة. نامت على دويّ رصاص انطلق منها، وأصابها رصاص من بعيد. سكانها الأصليون يقولون إنهم سئموا الرصاص وأهله، يلعنون الفتنة والطائفية. في شوارعها رجال بلحى طويلة وشوارب حليقة. «لا نعرفهم»، يقولون. 

 

«بدأت المعركة» 

 

الطفلة سمراء، نحيلة، تسير حافية القدمين تعلوها شمس لاذعة. الطفلة متسولة، لكن يدها غير ممدودة، فلا أحد في الطريق الجديدة، سوى عسكر ينتشر بهدوء وفتاة أجنبية تبتاع الحلويات من محل الهواري الشهير. وجه الطفلة شاخص إلى الأرض، تمشي على مهل، وأسنانها تقضم أظافر أصابع يديها تباعاً. 

يقول الشاب الواقف خلف صندوق المحاسبة في الهواري، إن الاشتباكات توقفت منذ الفجر. ينتبه الشاب إلى كاميرا مصوّر الجريدة، فيسأل: «صحافة؟»، ثم يهز برأسه بحركة حذرة قائلاً: «بعض الزعران حاولوا إطلاق النار اليوم، لكن لم يحدث شيء. فالاشتباكات الحقيقية كانت في محلة قصقص حيث شهدت عمليات قنص». 

عينا الطفلة إلى الأرض، وقدماها تسيران بها كيفما اتفق، فتجتاز «مسجد الإمام علي»، وتصل إلى «أرض جلّول». يقف سليم وسط حلقة من الشبان. 

يقول إن ابن عمّه لم يكن يحمل سلاحاً لما قُتل. كان «متوجهاً، وشقيقه، إلى عملهما في المرفأ، وتعرّضا لإطلاق نار من جهة الشياح». يقاطعه أحد الشبان قائلاً: «ربما أطلق عليهما النار طابور خامس، لكنهما حتماً لم يحملا السلاح. وقطعنا الطرق بعدما قُتل أحمد». 

الساعة الثانية عشرة ظهراً: مداخل الطريق الجديدة مقفلة، وسليم ربما كان يحمل سلاحاً إلى جانب مجموعته وربما لا. إطلاق رصاص متقطّع يُسمع من جهة قصقص. الحرج الأخضر الشهير مُحاصر من الجيش. الكولا، المدينة الرياضية، سليم سلام، كورنيش المزرعة، وطى المصيطبة، رأس النبع، مستديرة الطيونة، كلها شوارع مقفلة. 

أبو عساف اسم لمقهى شهير في الطيونة. كان المقهى، في ذروة الاشتباكات البعيدة القريبة، وسط الهرج والمرج، يعجّ بالروّاد الفضوليين أمس، وأمامهم حافلات النقل المباشر لوسائل الإعلام المرئية. الفضوليون يترقبون، من كراسيهم البلاستيكية، مشهد استنفار الجيش قبل اقتحامه الحرج. 

الطفلة السمراء النحيلة تقضم أظافر يديها تباعاً. رأسها منحن. تسير على غير هدى، كما لو أنها نائمة، بينما الرصاص يتناهى إلى مسمعها، وهي تمشي، حزينة مستسلمة لقدمين حافيتين ويدين مسبلتين. 

تلتصق وجوه ثلاثة شبان بأعمدة الحرج الحديدية. ثمة كرّ وفرّ داخل الحرج، ورصاص متقطّع ينطلق من الداخل بصوت عميق. الفضوليون الثلاثة يكادون يقفزون فوق الأعمدة بغية مشاهدة اشتباكات خطرة عن كثب، بينما سكّان المناطق الممسوسة بالرصاص كانوا يتمنّون الاختفاء من بيوتهم. 

«انظر»، يقول شاب عشريني كان جالساً في المقهى، مشيراً بيده إلى الشبان الثلاثة، مردفاً لصديقه: «فعلاً إننا شعب غريب عجيب، أولئك الثلاثة يبحثون عن الموت بلا انتباه، ونحن نجلس هنا وسط إطلاق النار القريب. إنها لحظات حرب الآن، تنتهي بعد قليل، لكن إلى حين الانتهاء، تبقى حرباً». 

يزم الشاب شفتيه معبراً عن موافقته على مضمون خطاب صديقه، ويقول: «فلنذهب إذاً، قبل أن نُصاب برصاصة طائشة». تتجهز الآليات العسكرية للتوجه إلى مستديرة شاتيلا. «رح تولع»، يقول الشاب الذي ألقى خطابه قبل قليل، طالباً من صديقه «البقاء قليلاً، فالآن بدأت المعركة». 

تطأ قدما الطفلة الحافيتان رصيفاً ملاصقاً للمقهى. ترفع رأسها عن الأرض، فترى وجوهاً تنظر إلى خلفها، إلى العسكر. الطفلة خجلت من مدّ يدها، وربما عرفت أن أحداً لن يكترث لها، وربما عرفت أنها تشبه بيروت، بسيرها من شارع إلى آخر، يلدغها حريق مباغت من الأعلى، حافية القدمين، وحيدة، حزينة، متشرّدة. 

الطفلة النحيلة السمراء لا تعرف كيف تمد يدها، ربما رفضت أن تمدها فأصبحت حافية القدمين، متشرّدة، تمشي بذهول مكتوم، حزينة من نفسها ومن ناسها، تقضم أظافرها وتمشي.. 

 

الرواية الأمنية 

 

يقول مصدر أمني ميداني لـ«السفير» ان الاشتباكات الأولى وقعت عندما حاول بعض الشبان المسلّحين، بعيد منتصف ليل أمس الأول، التقدّم من الطريق الجديدة باتجاه وطى المصيطبة، فأحبطت دورية للجيش كانت متمركزة في الكولا الهجوم، واندلعت الاشتباكات التي امتدت حتى الأمس. 

ويشير المصدر إلى أن خطة الشبان، الذين «ينتمون إلى خليط من السوريين والفلسطينيين وتيار سياسي محلي»، كانت ترمي إلى إطلاق النار في الوطى لاستدراج شبان المنطقة، الذين ينتمون إلى «حركة أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي». 

وتعرّضت دورية الجيش ما إن منعت الهجوم، وفق المصدر، لإطلاق نار من جانب الشبان، وردّ أفرادها على مصدر النيران، ثم تطوّرت الاشتباكات وامتدت إلى ظهر الأمس، وسُجّل خلالها استخدام المسلّحين لأسلحة القنص. 

وأصدرت مديرية التوجيه في الجيش بياناً، أمس، أشارت فيه إلى أن المدعوين أحمد وعبد قويدر (فلسطينيين) أقدما على إطلاق النار بالأسلحة الحربية الخفيفة باتجاه دورية تابعة للجيش، في محلة قصقص، وقد ردّ عناصر الدورية على النار بالمثل، ما أدى إلى مقتل أحمد متأثراً بجروحه. 

وفي بيانها، كررت قيادة الجيش «ما شددت عليه في بياناتها السابقة، بأن الوحدات العسكرية ستتصدى بكل حزم وقوة، للعابثين بأمن المواطنين والمعتدين على قوى الجيش، مهما كان انتماؤهم، وتؤكد أن هؤلاء لن يكونوا بمأمن من الملاحقة الأمنية والقانونية، حتى توقيفهم وإحالتهم على القضاء المختص». 

وكانت حصيلة الاشتباكات، إلى جانب مقتل أحمد، وقوع ستة جرحى، هم: أحمد العريفي (25 عاماً)، ماهر سولاكو ( 40 عاماً)، طالب أحمد السبع (38 عاماً)، محمد النحيلي (35 عاماً)، أحمد محمد خالد عوده (فلسطيني الجنسية، 25 عاماً)، إسماعيل أحمد الشيخ (سوري الجنسية، 46 عاما). 

وعند الرابعة عصراً تمكن الجيش من فتح الطرق كلها، وسيّر دورياته داخلها، بينما كان قائد الجيش العماد جان قهوجي قد تفقد الوحدات العسكرية في العاصمة، وأعطى «توجيهاته بوجوب التصدي للفتنة وعدم التساهل مع المخلين بالأمن إلى أي جهة انتموا»، وفق بيان الجيش.


 

Script executed in 0.19609785079956