تحولت صيدا أمس إلى كرة تتقاذفها الشائعات، مرة عن قطع طرقات ومرة عن إطلاق نار وأخرى عن بدء اعتصام مفتوح للشيخ أحمد الأسير في دوار مكسر العبد. وضع انعكس توتراً وغضباً بين سكانها وزوارها، وأقفلت مدارسها وجامعاتها ومؤسساتها أبوابها بعد وقت قصير من بدء الدوام. والسبب في كل ذلك، التهديد الذي كان الأسير نفسه قد أطلقه أثناء تشييع مرافقيه اللذين قتلا في حادثة تعمير عين الحلوة انتقاماً لهما، واعداً بتنفيذه يوم أمس، عقب انتهاء مراسم التعازي. وكان قد دعا أنصاره وعوائلهم خلال اليومين الماضيين إلى التجمع في مسجد بلال بن رباح عند الخامسة مساءً، متحدثاً عن عزمه على إطلاق موقف مهم مما حصل.
منذ أن بزغ فجر أمس، شخصت الأنظار نحو الساعة الخامسة، كأنها ستشهد نهاية العالم. الكثيرون اشتروا حاجياتهم وأنجزوا أعمالهم باكراً ليلزموا منازلهم قبل ذلك الوقت. ساد الظن بأن الأسير سيعلن الانقلاب أو العصيان المسلح أو الحكم الميليشيوي أو ما شابه ذلك، بالنظر إلى مشهد التشييع يوم الاثنين. كلما اقترب الموعد، تعزز الانتشار الميداني للجيش اللبناني الذي استعان بفوج المغاوير لتأمين وجود كثيف عند التقاطعات والمداخل والشوارع الرئيسية. وكان بادياً أن قيادة الجيش تتجه لقمع أي تحرك مخل بالأمن من خلال نشر العدد الأكبر من العناصر والآليات عند دوّاري القنايا ومكسر العبد حيث روّج الأسير للتحرك باتجاههما.
لكن وزير الداخلية مروان شربل الذي يخطف الاهتمام الأسيري دائماً بمواقفه وتصريحاته، فعلها أمس أيضاً. فقد انتقل من جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في السرايا الحكومية ظهراً إلى صيدا لتقديم واجب العزاء إلى عائلات ضحايا الحادثة، علي سمهون ولبنان العزي والفتى علي الشربيني، بعيداً عن الإعلام. إلا أن المحطة الأبرز التي حرص شربل على إخفائها نهائياً، كانت جلسة جمعته بالأسير. قبل شربل، كان الأسير قد استقبل وفداً من المبادرة الفلسطينية الإسلامية في عين الحلوة التي ساهمت في فك اعتصامه المفتوح قبل أسابيع. أحد أعضاء الوفد الشيخ جمال خطاب أوضح في اتصال مع «الأخبار» أن هدف الزيارة كان تقديم واجب العزاء وتقديم المشورة والسعي للتهدئة والحرص على عدم تطور الأمور في صيدا نحو الأسوأ. ونقل خطاب عن الأسير هدوءه وتقبّله لنصائح التهدئة، مشيراً إلى أنه سيشاور القوى الإسلامية الأخرى لأخذ قرار بالتحركات المقبلة. ولمّح خطاب إلى اقتراح إجراء مصالحة بين الأطراف المتخاصمة كمدخل لحل الأزمة، لافتاً إلى إمكان موافقة الأسير على تسليم المتهمين لديه بإطلاق النار في حادثة التعمير في مقابل أن يسلم الطرف الآخر عناصره المتهمين، في حال ضمان خضوع الجميع للمحاكمة.
حانت الساعة الخامسة، توافد العشرات من الأنصار، الرجال والنساء والأطفال، إلى مسجد بلال. أدوا الصلاة وتحلقوا حول الأسير الذي دعاهم إلى كلمة سواء طلب فيها، بحسب أحد الحاضرين، أن «يستشيروا أنفسهم حتى يوم الجمعة، بين أن يستمروا بمرافقته وبين أن يتفرقوا عنه». ووضع الأسير صندوقاً داخل المسجد خصصه لتلقّي اقتراحات مناصريه وأعضاء مجلس الشورى التي سيطلع عليها بعد صلاة الجمعة، بشأن الخطوات التي يقترحون اتخاذها في الفترة المقبلة.
ومن دون أن يحدد وجهة النظر المقبلة، رأى الأسير أن «الدماء التي سقطت في التعمير في رقبته، لذا فإنه لا يريد أن يسقط المزيد من الدماء. ومن يرد الاستمرار في صفوفه، عليه أن يتحمل بنفسه مسؤولية ما قد يحصل له». ولفت مقرّبون منه إلى أنه فعلياً ليس جاهزاً لرفع السقف على الصعيد العسكري تحديداً، في ظل ضعف خبرة أنصاره ورفض عدد كبير من الفلسطينيين الانضمام إليه. وفي الإطار ذاته، أكد المقرّبون امتعاضه من مذكرة البحث والتحري التي أصدرها مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر بحق نجله عمر بتهمة الاستيلاء على أسلحة حاجز أمني وتسطيره استنابات قضائية لتبيان المشتركين معه.
وإن كان المجلس الأعلى للدفاع قد رفض إعلان صيدا منطقة عسكرية، موعزاً إلى الأجهزة كافة باتخاذ التدابير لمنع الإخلال بالأمن، فإن الجيش تسلم قيادة العمل الأمني وأعطى الضوء الأخضر للتعاطي بحزم مع محاولات تهديد السلم الأهلي في المدينة. وفي تداعيات حادثة التعمير، علمت «الأخبار» أن الشيخ يوسف حنينة، بوكالته عن الشيخ الأسير، تقدم بشكوى ضد عدد من الأشخاص بتهمة محاولة قتل الأخير، فيما تقدم المواطن علي عز الدين بشكوى أمام النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب ضد فضل شاكر وعدد من أشقائه وأبنائهم ومرافقيه بتهمة التهديد والتعرض له بالضرب. من جهتها، قررت بلدية صيدا منع رفع اللافتات على اختلافها ضمن نطاقها البلدي.
من جهة أخرى، وتحت جنج الظلام أمس، دفنت عائلة المواطن المصري مصطفى الشربيني ابنها الفتى علي (16 عاماً) الذي سقط في حادثة التعمير يوم الأحد الفائت بتلقّيه رصاصة قاتلة في رأسه. تأخير الدفن سببه انتظار خروج شقيقه الأكبر محمد من السجن ليتمكن من وداعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه. وكانت والدته الفلسطينية فاطمة الصغير قد استعانت بالأمين العام للتنظيم الشعبي الناصري أسامة سعد لمساعدتها في تقديم طلب إخلاء سبيل لابنها الموقوف، متجهة لمتابعة التحقيقات في ظروف مقتل ابنها علي ورفع دعوى قضائية ضد الفاعلين. أما عائلة لبنان العزي، فقد أخرجت غضبها من تفرّد الأسير بقرار دفن ابنها في دوار مكسر العبد إلى العلن، إذ أبدت رغبتها في انتشال جثمانه تمهيداً لنقله إلى مسقط رأسه في النبطية الفوقا ودفنه هناك.
وفي السياق ذاته، عقد إمام مسجد القدس في صيدا الشيخ ماهر حمود مؤتمراً صحافياً قرره بعد التهديد الذي تلقّاه من فضل شاكر عبر الهاتف، كما قال. وجدّد موقفه من أن الأسير يتحمل 90 في المئة من الدماء التي سقطت وكل الفتنة في صيدا، وكل إغفال عن حقيقة ما جرى في صيدا يكون «شهادة زور»، لافتاً إلى «وجوب تشخيص مرض الأسير عند الأطباء».
ومن الضنية، ردّ النائب السابق جهاد الصمد على تصريحات النائبة بهية الحريري الأخيرة فقال: «كان الأحرى بمن يزعم الحرص على المصلحة الوطنية أن ينتبه إلى أن النفخ في نار الفتنة سيجر على الوطن ويلات كبرى، ولا ينفع تزوير الحقائق في إقناع الناس بأن التقاتل هو خشبة الخلاص، ثم يلقون تبعات الدم على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي لم تلوّث يداه بدماء الناس، لا في صيدا ولا في طرابلس».