أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

حي التعمير: إسم على غير مسـمّى

الإثنين 10 كانون الأول , 2012 06:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,841 زائر

حي التعمير: إسم على غير مسـمّى

نتحدث عن حزام طويل، لكنه ليس عريضاً، يلاصق مخيّم عين الحلوة من آخره ويضيق بأهله حتى يشعر عابره بأنه يتضاءل أمام عينيه. لو كان ضيق النَفَس ملموساً لتحسسه الناظر إلى سكان «التعمير التحتاني» باليد المجردة. ربما توصف أحياء الفقراء بالأحزمة لأنهم قد يلفون بها أنفسهم ويفجرّون كل شيء. يصلح التعمير أن يكون حزاماً أكثر من غيره. قد يفجّره مستهتر بالبشر والحجر، فيهلك في طريقه صيدا وعين الحلوة، ومعهما البلاد. وقد فعلوها أخيراً في صيدا. أحمد الأسير «تحركش» بجماعة حزب الله وأمل، بروفة أولى. في التعمير عاطلون من الأمل، حاضرون لكل شرّ. أخيراً، قتل الفقراء بعضهم بعضاً. جماعة الأسير يقولون إن مفتعلي الخلاف الأخير «زعران»، وجماعة الحزب يقولون إن استفزازات الأسيريين «لا تحتمل». في التعمير وجوه مستعدة لمعركة أصحابها ليسوا متأكدين إن كانت قد بدأت فعلاً.

12 ألف ناخب في منازل مؤقتة

بالأرقام، في بلد الأرقام ومواطني الأرقام الذين تحصى رؤوسهم قبل حزيران الانتخابات العظيم، هناك 12 ألف ناخب في تعمير عين الحلوة. 12 ألف ناخب موعودون ببنى تحتيّة، بعد انهيار الفوقيّة منها على رؤوسهم. كما في كل عام، «يُحكى» عن طرح مشروع للاسراع في اصدار سندات تمليك دائمة. هذا كمّون الانتخابات في الحيّ، يتفشى بين البيوت المحتارة قبل فرز الرؤوس بشهور قليلة. وحتى «تقريش» الوعود، ستبقى تلك أرضاً مؤقتة. فالمالكون الأصليّون شرعيّون بسندات تمليك مؤقتة، غير أن بعضهم باع منازل بشهادة كتّاب عدول، واعترفت مديريّة الإسكان بهذا البيع. بكلمات أخرى، يبيع أهل التعمير الوقت، أو يتاجر السياسيّون بوقتهم. ربما تكون الجملة الأخيرة أقرب إلى الصواب. وفي الواقع، المرير أكثر من المعقول، لا أحد يملك سند تمليك دائم، وتالياً، في القانون، لا مالك أصيلاً واحداً في حيّ التعمير.

مدّ حريري ــ سلفي

يعمل المكتظون في التعمير ما يعمل به الصيداويون: الحلويات. ستجد عمالاً وعتّالين وحدّادين ونجّارين. مهن يقال إنها حرّة غير أنها تسلب أهلها أجسادهم بلا مردود. المردود في الانتخابات. وفي صيدا ومحيطها يتحدّث كثيرون عن الاستزلام. استزلام إلى «ما شاء الله» لا يتوقف على فريق دون آخر. لجميع القوى السياسيّة في صيدا نفوذ في التعمير. إنها منطقة فقراء. وأثبتت التجربة اللبنانيّة أن أخصب بيئة ممكنة للتعبئة السياسيّة هي تلك المؤلفة من الطبقات المسحوقة اقتصاديّاً. كيف هي الحال والتعمير مختلط مذهبيّاً وفيه فلسطينيّون. إنه، بلا شك، «ثروة» للأحزاب القابضة على مفاصل العيش. ومن نعم الله أن الجميع حاضر. بالدرجة الأولى، هناك حضور قوي لتيار المستقبل، الذي تمثله في صيدا والجوار، النائبة بهيّة الحريري، وأخيراً نجلها أحمد، الذي يقول سكان من التعمير إنه يتصرف كـ «العرّاب». يستخدمون الاسم لأن أشهر مقاهي صيدا هو العراب، «البادرينو». الناس في التعمير يقصدونه. وعلى ذمة كثيرين يتجاوب غالباً. وإلى نفوذ «البادرينو»، عرّاب «التطنيش» عن نفوذ الأسير في التعمير، ثمة وجود لحزب الله. لم يعد خفيّاً أن ما يغيظ الأسير ليس وجود حزب الله، بل «وجود الشيعة». فالجماعة موجودون منذ نشأة الحيّ، لكنهم كانوا ناصريين، أو شيوعيين، أو حتى مع المنظمات الفلسطينيّة. تبدّلت الأحوال في كل البلاد وتبدّلت خيارات الشيعة السياسيّة. هذا ليس نقاشاً جيداً في صيدا. صيدا مختلفة. حتى عام 1985، كان التنظيم الشعبي الناصري، اللاعب الأبرز في المنطقة، فيما كان الأسير، على الأرجح، طالباً للعلوم الدينيّة. القول إن التنظيم الناصري كان ميليشيا لن يُحسب اتهاماً. كان زمن الميليشيات المعلنة. أما اليوم، فمن ابتلي بالتسلح يستتر حيناً ويثب واثقاً حيناً آخر. وقد يبارك وزير نافذ ميليشياه المتواضعة أو يجد لها مبرراً، فيضعها في خانة «التنفيس». في أية حال، هذه القاعدة تخرقها الجماعة الإسلاميّة، التي تملك بعض النفوذ في المنطقة. ويمكن أن تكون مفردة «نفوذ» فائضة نوعاً ما عن الواقع. لدى الجماعة حضور ومناصرون. وهي، كعادتها، لم تعاد أحداً. دبلوماسيّة حتى النخاع. لم تظهر أي ميليشيا تعيث زعرنةً في التعمير باسمها. وكعادة الناصريين حافظوا على علاقة جيدة بالوصاية خلال الحرب، غير أن تحرير الجنوب، سحب من مناصريهم لمصلحة الفريقين الشيعيين الكبيرين، وخصوصاً حزب الله. وكما في صيدا، كذلك في التعمير، يردد مناصرو سعد أسطوانة «المال السياسي»، مؤكدين أن ناصريين كثراً صاروا حريريين. بوضوح تام، يمكن مشاهدة محالّ حريريّة بامتياز في التعمير، تزينها الصور العملاقة للرئيس الأب الراحل رفيق الحريري، ونجله الرئيس السابق سعد. يقول الحريريّون إنهم حوربوا في البداية لكن المدّ الذي تلى اغتيال الرئيس الحريري، طبّع العلاقات بين سكان الحيّ. وشيئاً فشيئاً، تكيّف السكان مع اختلافاتهم. التعمير أشبه بعلبة يحرص الجيش اللبناني على ألا تنفجر. يؤكد البعض أن الحضور الكثيف للجيش، ليس بسبب تيار المستقبل ولا حزب الله. لطالما كان الفريقان قادرين على تسيير أمورهما بلا صدامات. جيرة وإلى ما هنالك. غير أن انتشار «جند الشام»، في فترات سابقة، جاء بالجيش إلى المنطقة. الجماعة الأخيرة لا تتعايش مع أحد، حتى إن عناصرها تراجعوا أخيراً إلى خط السكة، وهو خط محاذ للحيّ المكتظ بالتناقضات. يأتي «جند الشام» إلى التعمير من وقتٍ إلى آخر، لكن لا أحد يمكنه ان يفهم طبيعة نشاطاتهم العلنيّة، على عكس انصار الأسير، الذي تحول فجأة إلى نجم قادر على الصراخ بلا توقف.

فتش عن الأنصار

لا يمكن المرور على تصرفات الأسير مرور الكرام. تسبب في مقتل رجلين كما أحيا الهلع المذهبي في صفوف السكان. ونتيجة للاحتكاك المسلح، عاد الجيش إلى المنطقة بكثافة: 3 حواجز ثابتة في الحيّ الصغير نسبيّاً، وعلى مسافة 600 متر. في الأساس، الحيّ ليس فردان ولا فرن الشباك. اجراءات الجيش محمودة من السكان، غير أن بعض «التجار» يتذمرون. يؤدي توقيف السيارات وتفتيشها إلى اضعاف حركة الدخول والخروج إلى الحيّ، التي كانت ضعيفة أصلاً. وللمناسبة الجميع يثق بالجيش، والجميع يتذمر منه. الجميع يقول إن وجوده ضروري لضبط الأمن، والجميع يؤكّد أنه لن يستطيع أن يوقف الرعب الآتي. معادلات لبنانيّة في التعمير لا ينجو منها إلا سكان آخر الحيّ القريبون من مخيّم عين الحلوة. فهؤلاء، تاريخيّاً، أقاموا علاقات تجاريّة واجتماعيّة مع المخيّم، حتى أصبح الفاصل بينهم وبينه رمزيّاً. زبائنهم من هناك. لديهم أهل هناك. والحياة لم تتغير بعد فورة الأسير. بالنسبة إلى سكان آخر حيّ التعمير، الأسير ليس خطراً، ولا أحد آخر. كل هذه مناوشات لن تفسد للحقيقة قضيّة: عصبة الأنصار هي الأخطر. عصبة الأنصار الموجودة في مخيم الطوارئ ومخيم عين الحلوة، لديها حضور لفظي في التعمير. يهابها الناس. يؤمنون بقدراتها، نظراً لأن عناصرها الإسلاميين جاهزون دائماً للهبوط بالباراشوت.

مستوصفات الأحزاب

كل شيء قادر على الهطول في التعمير. جدران المنازل. القذائف الصاروخيّة. الرصاص. كل شيء إلا الخدمات التي يحتاجها الناس ليعيشوا. لا يطالبون بعيش كريم، يطالبون بالعيش. عيش حاف. وسيقبلون به. 15 ألف مواطن بلا مدارس. ثمة مدرسة واحدة ابتدائيّة، كما أن اسمها يدلّ على ظروف إنشائها: «مدرسة عين الحلوة الابتدائية». وفيها من أصل 15 ألف، 140 تلميذاً، غالبيتهم فلسطينيون. اللافت أن الناس غير متحمسين لإرسال أولادهم إلى المدارس. ستخطر في البال فوراً صورة المقاتل الصغير. الجميع يتوقع أن يصير مقاتلاً في بيئة كهذه تربي العنف بسلاسة. بعض يعترف بذلك ساخراً وبعض آخر يكون أكثر سخريّة: المدرسة أشبه بثكنة عسكريّة. حتى هؤلاء التلاميذ القلة، لا يعرفون كيف ينجون عندما تبدأ حفلات الرصاص المجاني في الشارع. وإذا نالوا قسطهم من الرصاص، فإنهم لا يثقون كثيراً بمستشفى صيدا الحكومي. المستشفى قديم، «لكنه ليس كاريتاس». لم يمدحه أحد، بل اختارت الغالبيّة الحديث عن مستوصف آل الحريري، قرب مدرسة الأميركان. وهذا خارج التعمير، لكنه يستقبل أهلها لأسباب... انسانيّة. بدورهم تحدث آخرون عن مستوصف الشهيد معروف سعد التابع لمؤسسة معروف سعد الاجتماعيّة، وهذا أقل نشاطاً من الأول، وبدرجة أقل، تحدث سكان من التعمير عن مستوصف الإمام علي، الذي له صلته بالجماعة الاسلامية. أوصلت الأمراض السياسيّة المزمنة سكان التعمير إلى هذه الحال. لا بديل عن الخدمات التي تقدمها الطبقة المتناحرة على دم العابرين في التعمير العابر

Script executed in 0.20361304283142