أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

القصص المخفية لأطفال الشوارع: اغفر لنا يا حسن!

الإثنين 04 شباط , 2013 03:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,278 زائر

القصص المخفية لأطفال الشوارع: اغفر لنا يا حسن!

قبل عامين، ومع تنبّه الدولة للأسر الأكثر فقراً ولأطفال الشوارع المعرضين للخطر والتحرش، بدأ حسن (12 عاماً) رحلة تحوّله إلى أحد أطفال الشوارع في مدينة صور. هو واحد من الأطفال الذين يخدشون، بنظر البعض، صورة المدينة السياحية التي تصل بعض بدلات الإيجار الشهري فيها إلى سبعة آلاف دولار. زملاء حسن تنوّعوا بين بائعي علكة ومتسولين. لكن حسن كان الأكثر طموحاً بينهم. تحت المطر، وفي حرّ الصيف، يبقى واقفاً في إحدى زوايا الكورنيش البحري عارضاً بضاعته: ربطات من الزعتر أو الهليون أو العيزقان. يتنبه لوجوده البعض، فيشتري منه. لا يعتمد أسلوباً لجوجاً في البيع. لكن الحزن الدفين في عينيه الخضراوين، وهزال جسده الصغير، وتلعثم الكلمات في شفتيه، كانت مؤشرات كافية ليشتري الكثيرون من باب الشفقة أولاً. في حديثنا معه، اكتشفنا أنه يعاني من صعوبة النطق. أخبرنا أن اسمه حسن ح.، وأن والده استشهد في عدوان تموز، فاضطر لترك المدرسة والعمل لإعالة والدته وأشقائه الأربعة الصغار.

لمساعدته وفق الآلية التي وضعتها الدولة في خطة دعم الأسر الأكثر فقراً، قصدنا اللوبيا (قضاءالزهراني) التي قال لنا حسن إنه منها. سألنا عن ابن الشهيد، لنكتشف أن لا صحة لما قاله. استعنا برئيس البلدية علي مطر الذي أوضح لنا أن حسن هو ابن عامل سوري يسكن في البلدة منذ سنوات طويلة، وقد تزوج من إحدى فتياتها وأنجب منها خمسة أولاد، ثالثهم حسن. هو لم يكذب علينا فحسب، بل على آخرين أخبرهم أن اسمه حسن م. (نسبة لعائلة أمه) وأن والده أصيب في العدوان. فيما قال لغيرهم إن والده توفي بمرض عضال. باستعراض مطر لظروف عائلة حسن، نجد أنه لجأ للكذب لجذب استعطاف أكبر من الناس ليشتروا منه.

عند أطراف أحد أحياء اللوبيا، يقع منزل عائلة حسن الذي شيّد قبل عامين، بمساعدة من مطر الذي سهل لهم الاستحصال على رخصة بلدية للبناء على قطعة أرض صغيرة قدمتها عائلة والدته لها. للوصول للبيت، علينا قطع مسافة طويلة صعوداً على طريق مستحدثة لكنها غير صالحة للسيارات. قبل الوصول، نمر أمام «تخشيبة» كانت منزل العائلة في الوقت الفاصل بين تشييد المنزل الجديد، وبين احتراق «التخشيبة» السابقة التي كانوا يسكنون فيها. المنزل الجديد بلا نوافذ ولا أبواب، بل استبدلت بقطع من النايلون وألواح خشبية. أما الأثاث، فاختصر بحصيرة وكرسي ومسند على الأرض. الثياب والأغراض وضبت في صناديق. تلفت والدة حسن نظرنا إلى أنها استطاعت تجهيز غرفتين فقط للمعيشة، على أن تنجز باقي الغرف عندما تسمح الإمكانات المادية.

ماذا عن حسن؟. توضح والدته بأنه عانى منذ الولادة من صعوبة في النطق، إلى أن تنبهت لمشكلته، فأجرت له عملية فك عقدة شرش تحت لسانه. لكنه بقي بحكم الأخرس حتى الثامنة من عمره. اللافت أنه أرسل مع أشقائه إلى مدرسة البلدة الرسمية وليس إلى مدرسة متخصصة. هناك تحول إلى سخرية زملائه الذين أصبحوا يقلدون طريقة كلامه ويستضعفونه ويضربونه. يقر مطر، الأستاذ في المدرسة ذاتها، بأن كادر المدرسة لم يؤمن الحماية اللازمة له. الشعور بالنبذ، دفع حسن إلى الهروب من المدرسة. ولأن الوالدين اللذين يعملان في جمع الحطب والأعشاب، يغيبان طوال النهار عن المنزل، لم يتنبها لتسرّبه الذي بات لاحقاً أمراً واقعاً. حينها، بات والده يستعين به لمساعدته في بيع ما يقطفه. لكن حسن فرح بالمال القليل الذي لمسه بيديه للمرة الأولى. طوّر المهنة حتى صار يشتري من والديه ما يقطفانه ويبيعه بدوره في البلدة ومحيطها، وصولاً إلى صور. من الأعشاب إلى بيع الورد الجوري مؤخراً. التصق حسن بشوارع صور. في أحيان كثيرة لم يكن يعود للمبيت في منزل عائلته. نام أحياناً على الرصيف وأحياناً أخرى استضافه صاحب استراحة مع طفل آخر يبيع العلكة. تؤكد والدته أنها وزوجها ذهبا أكثر من مرة للبحث عنه، إلى أن أوقفته الأجهزة الأمنية مرة عندما كان نائماً على الرصيف في حالة غير متوازنة، متناولاً الكحول أو الحبوب المهلوسة. اقتاده الوالد إلى البيت حيث ضربه بشكل عنيف وقيّده بالجنزير لمنعه من الخروج مجدداً. لكنه استطاع الهرب قبل أكثر من شهر ولم يعد إلى المنزل. أحياناً كان يبيت عند جدته في البلدة من دون أن يزور عائلته. في هذا الوقت، كانت تصلهم أخبار أنه يهيم في الشوارع ويعاشر أشخاصاً أكبر منه سناً ويدخّن النارجيلة.

ليل الخميس الفائت، تعرّض حسن لحادث صدم على طريق الحوش في ضواحي صور. سيارة مسرعة صدمت الفتى الذي طار جسده في الهواء قبل أن يرتطم بالأرض مصاباً بنزيف في الرأس وكسور في أنحاء جسده.نقل إلى احد المستشفيات حيث تكفل الصادم بتغطية نفقات العلاج. ومساء أمس، تخطى الفتى مرحلة الخطر. إذ نقلت والدته عن الأطباء استفاقته من الغيبوبة واستبعاد إصابته بشلل برغم أنه يحتاج لوقت طويل حتى يتعافى من كسوره.

ماذا ستفعل عائلته بعد الحادث؟. تقر الوالدة بأنها وزوجها يتحملان جزءاً من المسؤولية عن ضياع ابنهما الذي كاد ليلقى الموت قبل أيام. تؤكد أنها ستحتضنه ما إن يخرج من المستشفى ولن تدعه يغيب عنها. وعود قد لا تستطيع الوالدة تنفيذها. فهي مضطرة لترك منزلها وأولادها طوال النهار لتؤمن قوت يومهم. هي تصر على توفير مستقبل أفضل لهم. تحرص على أن يكملوا تعليمهم برغم قصر اليد. لكنها ليست قادرة على حمايتهم بشكل كامل من الشارع الذي يؤرق كل محروم.

مسؤولية الحكومة

يرى الباحث الاجتماعي د. طلال عتريسي أن حسن ليس مسؤولاً مباشراً عن المصير الذي آل إليه، بل هو الوضع الاقتصادي لعائلته، إضافة إلى ما تعرّض له في المدرسة وأفقده الثقة في نفسه. أما المسؤولية الكبرى، فتلقى برأي عتريسي على الحكومة التي تفتقد لخطة وطنية شاملة لحماية أطفال الشوارع ومواجهة عمالتهم. خصوصاً أن حجم أطفال الشوارع يزداد يومياً في غياب دراسات جدية لرصد خلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لإعادة دمجهم في المدارس او في بيئاتهم العائلية.


Script executed in 0.19242787361145