أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

تونـس تدفـن رمـزاً مـن ربيعهـا

السبت 09 شباط , 2013 03:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,551 زائر

تونـس تدفـن رمـزاً مـن ربيعهـا

«نم قرير العين شكري.. سنواصل على دربك». عبارة هتف بها رفاق الأمين العام لحركة الديموقراطيين الوطنيين شكري بلعيد أثناء تشييعه في تونس أمس. لم يكونوا وحدهم، كان هناك عشرات آلاف التونسيين الذين تدافعوا لتشييع الزعيم اليساري، الذي رفع الصوت دائماً دفاعاً عن الحرية والديموقراطية في وجه الديكتاتورية والتطرف الديني.

المشهد من تونس، مهد «الربيع العربي»، أمس، كان غاية في التأثير، فالبلاد لم تشهد جنازة مماثلة منذ وفاة الحبيب بورقيبة في العام 2000. هناك اختلطت مشاعر الأسى بمشاعر من نوع آخر، تحمل في طياتها الفخر بتاريخ نضالي طويل أنهاه بلعيد شهيداً في سبيل قضاياه. كل تلك المشاعر جسدتها زوجة بلعيد، بسمة الخلفاوي، التي أصرت وسط مأساتها على رفع شارات النصر بكل ثقة، مؤكدة أن من قتلوا المناضل الشرس.. لن ينجحوا في قتل قضيته. واختصرها رفيقه المناضل حمّة الهمامي في كلمة مؤثرة كانت خلاصتها «على العهد باقون»، فيما ردد مشيعون هتافات ضد زعيم «النهضة» راشد الغنوشي. 

لم يكن موت بلعيد الذي تحول رمزاً من رموز «الربيع» التونسي، حدثاً عادياً في تونس. في ذلك البلد الذي لم يعتد الاغتيالات السياسية، والذي يباهي بسلميّة ثورته التي أطاحت منذ سنتين النظام الديكتاتوري، كان مقتل قيادي معارض، بحجم بلعيد، كفيلاً بإشعال موجة غضب في الشارع، يبدو أنها لن تهدأ في وقت قريب. وما يزيد من احتمالات تطور الأحداث هو 

الاتهام الذي تحول يقيناً لدى عائلة بلعيد ومناصريه، بأن حركة «النهضة» الإسلامية الحاكمة متورطة في تصفية معارضها «المزعج»، بمساعدة خارجية من دول تدعم الإسلاميين بهدف الاستئثار بالحكم. 

ووسط كل ذلك، يبدو أن الحكومة قرّرت سلوك طريق الصدام مع الشارع. وبعد يومين من الاشتباكات مع المتظاهرين المحتجين على مقتل بلعيد، واصلت قوات الأمن قمع هؤلاء.. حتى المشاركين في الجنازة ومن هم في مربع الشهداء في مقبرة الجلاز في جبل الجلود حيث كان بلعيد يوارى في الثرى. المواجهة مع المعارضة الغاضبة كانت كذلك قرار الحكومة. فبعد أن أعلن الأمين العام لـ«النهضة» ورئيس الحكومة حمادي الجبالي، إثر مقتل بلعيد، عزمه تشكيل حكومة تكنوقراط لحلّ الأزمة، خرجت «النهضة» لتؤكد استمرار الحكومة الحالية واتخاذ إجراءات صارمة بحق الجبالي، برغم أن إعلان الأخير كان قد أثار ردود فعل إيجابية لدى المعارضة. 

واللافت، أمس، كان تمسّك الجبالي بمبادرته مهما كلّف الأمر، مؤكداً أنه لن يذهب إلى المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان) للحصول منه على «تزكية» لهذه الحكومة. 

الوداع الأخير 

اختلطت زغاريد النسوة بالدموع وبصيحات الغضب والشعارات المناهضة للسلطات الحاكمة في تشييع بلعيد، الذي تحول إلى تجمع شعبي حاشد ضد الإسلاميين الذين يتولون السلطة. 

ومنذ الصباح، تدفق آلاف التونسيين على حي جبل الجلود وهم يلوّحون بصور بلعيد تحت زخات مطر متقطعة. في هذه الأثناء، نقل نعش الفقيد ملفوفاً بالعلم التونسي من منزل والده إلى دار الثقافة المجاور. هناك حيث رسم أحد فناني مجموعة «زواولة» (فقراء) على سور دار الثقافة الأبيض شاربا أسود يرمز إلى بلعيد الذي اشتهر بشاربه الكث، وبتصريحاته المناهضة للإسلاميين التي كانت تضفي حيوية على البرامج التلفزيونية والإذاعية. 

ورددت الحناجر «الشعب يريد ثورة من جديد» و«غنوشي يا سفاح يا قاتل الأرواح» و«غنوشي احمل كلابك وارحل». كما استعاد المشيعون شعار «ديغاج» (ارحل)، الذي كان أحد الشعارات المركزية لثورة «الحرية والكرامة» في العام 2011. 

وأمّن الموكب عسكريون مزودون بأسلحة آلية حملوها على الكتف في انضباط وحزم، فيما شارك في الجنازة الوطنية المهيبة العديد من الوجوه السياسية، خصوصا من أحزاب المعارضة، إضافة إلى العديد من النقابيين والحقوقيين. 

أما على المستوى الرسمي، فلم يحضر سوى قائد الجيش رشيد عمار، وذلك بعد أن رفضت أسرة بلعيد حضور ممثلي الترويكا الحاكمة. 

في ذلك المشهد المهيب، ظهرت ابنة بلعيد، نيروز (8 سنوات) بكامل تأثرها، وهي كانت قد أصيبت بحالة إغماء شديدة، بعد أن أصرت على الصعود إلى السيارة العسكرية التي تنقل والدها. وكذلك بدا والده صالح بلعيد الذي قال إن «ابني رجل عاش شجاعا وكريما، لم يخف أبدا واستشهد من أجل بلاده». 

المواجهات 

تواصلت المواجهات في شوارع تونس أمس، حتى أن المثوى الأخير لبلعيد لم يكن في مأمن من ذلك. وبالقرب من المقابر، اندلعت أعمال العنف حيث أطلقت الشرطة الغاز المسيّل للدموع على المتظاهرين الذين رشقوها بالحجارة وأشعلوا النار في سيارات. كما استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ضد محتجين بالقرب من وزارة الداخلية، وهي منطقة اشتباكات معتادة في العاصمة التونسية. 

وفي سياق التصعيد الذي دفع «الاتحاد التونسي العام للشغل» إلى إعلان أمس إضراباً عاماً، أغلقت المصارف والمصانع والمتاجر أبوابها، في وقت استمرت الحافلات بالسير بصورة منتظمة. وكذلك توقفت جميع الرحلات من تونس وإليها بسبب إضراب العاملين في المطار. 

بقيت جبهة الصراع على الحكومة محتدمة داخل حركة «النهضة». فبعد أن أكدت الحركة استمرار الحكومة، رافضة طرح الجبالي تشكيل حكومة تكنوقراط، خرج الأخير ليؤكد «تمسكه بقراره تشكيل حكومة تكنوقراط»، قائلاً «لن أذهب إلى التأسيسي لتزكيتها، وتركيبة الحكومة جاهزة تقريباً». 

وأوضح الجبالي، في حديث لوكالة الأنباء الرسمية، أن «الحكومة ستكون مصغّرة، وستتشكل من أبرز ما لدينا من كفاءات وفي كل الوزارات السيادية وغيرها، تعمل على الخروج من هذه الوضعيّة». 

وأسف الجبالي لأن «بعض الجهات تضغط من أجل إفشال هذه المبادرة»، قائلاً «أنا أنتمي إلى حركة النهضة ولكن أتحمل مسؤولية قراري، سأجري مفاوضات مع الأحزاب ولن أتراجع عن قراري». 

من جهة أخرى، أعلن زعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي أنّ «المؤامرة ضد تونس ستفشل»، مضيفاً أن «اغتيال بلعيد واقعة خطيرة تستهدف الطبيعة السلمية للثورة»، مستطرداً أن «اغتيال بلعيد يستهدف «حركة النهضة» باعتبارها تقود الحكم وكل عمل تخريبي يستهدف مَنْ يحكم». 

وتابع الغنوشي «أشعر أن هناك خيوط مؤامرة تستهدف ثورات الربيع العربي، وكأن هناك قرارًا ما في مكان ما في العالم لإسقاط ثورات الربيع العربي عن طريق إرباكها ونشر العنف والتطاحن وإغراق البلاد في العداوة والبغضاء». 

وحول الاتهامات التي وجهتها عائلة بلعيد بوقوفه و«حركة النهضة» وراء الاغتيال، قال الغنوشي «نتفهم هذا في غمرة رد الفعل ولكن الاستمرار فيه هو انسياق في مخطط العدو الذي يريد أن يوقع الحرب بين الإسلاميين والعلمانيين». وأكد الغنوشي، في النهاية، أنه موجود في العاصمة ولا ينوي مغادرة تونس. 

(«السفير»، أ ف ب، أ ب، رويترز، أ ش أ) 


Script executed in 0.22400617599487