أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

عبرا الجديدة لـ «البيع» والضيعة تخشى على هويتها

الخميس 28 آذار , 2013 07:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,903 زائر

عبرا الجديدة لـ «البيع» والضيعة تخشى على هويتها

من لم يسمع بعبرا في العامين الأخيرين؟. ومن يستطيع، في ذهنه، ان يفصل عبرا عن الشيخ أحمد الأسير ومسجده بلال بن رباح؟ ضاعت هوية البلدة الأصلية في جلباب الشيخ، واختفت خلف لحيته ولحى أنصاره الطويلة. وليست عبرا الأصل، أي البلدة المسيحية، وحدها ضحية العهد الأسيري فحسب، بل أيضاً عبرا الجديدة أي المحال التجارية والمباني السكنية التي بناها وسكنها لبنانيون، من مختلف المناطق والمذاهب والثقافات والآراء ومنها مسجد بلال نفسه وإمامه الأسير. من أين ندخل إلى عبرا الضيعة؟. استفسار لم يعد سطحياً أو عابراً بعد استعار حركة الأسير في الآونة الأخيرة. إنما يعنيه الكثيرون من المتوجهين من بيروت باتجاه بلدات شرق صيدا وجزين.

 

هل يسلكون الطريق الاعتيادية التي تمر في قلب عبرا الجديدة، بين مبانيها ومحالها المترامية على الجانبين ومن بينها مدخل المربع الأمني المحيط بمسجد بلال؟ أم يريحون رؤوسهم ويسلكون الطريق المختصرة، أي أوتوستراد حارة صيدا ــــ مجدليون الذي يمر تحت سفح عبرا الجديدة من جهة والحارة من جهة أخرى؟

كثر باتوا يعتمدون الخيار الثاني. «أريح رأس»، يقول أحد أصحاب المحال الواقعة على طريق عبرا الجديدة. وبرغم أنه وزملاءه التجار متأثرون سلبياً بهذا الخيار، إلا أنه يتفهم مخاوف الناس والصورة السوداوية التي التصقت بعبرا مؤخراً. محل الرجل يقع مقابل مدخل المربع الأمني للأسير. على يمينه وشماله، تتمركز آليات للجيش ونقطة مراقبة دائمة له. يشير إلى أن الوجود العسكري بحده الأدنى يبعث على القلق بين الناس الذين يظنون بأن «تطوراً أمنياً ما سيحصل استدعى حضور الجيش». لذا فإنهم «يستغنون كلياً عن المرور من المكان ويستعيضون عن محاله بالتسوق من أماكن أخرى». تحوّل الكثيرين عن عبرا واضح على المحال التي عرض عدد كبير منها للبيع أو الإيجار على غرار ما يحدث في مدينة صيدا. ومن أبرز ملامح الأزمة الاقتصادية المستجدة في عبرا، قرار مالكي «سوبر ماركت البساط» المحاذي للمسجد، بيعه للأسير نفسه بعد تقلص عدد زبائنه إلى الحد الأدنى واستخدام أنصار الأخير موقف السيارات التابع للسوبرماركت.

في الأحياء السكنية والمحال المحيطة بالمسجد لافتات كثيرة تحمل عبارة «شقة للبيع» أو «شقة للإيجار». الأسماء على مداخل الابنية، تشير إلى تنوع أصحابها وشاغليها مناطقياً وطائفياً. إذ إن هذه المدينة الصغيرة، توحد سكنياً، أشخاصاً مسيحيين من صيدا وشرقها وبلدات جزين ودروزاً من منطقة حاصبيا وسنّة من صيدا وإقليم الخروب والعرقوب وشيعة من الجنوب. معظم هؤلاء قادهم الى هنا التهجير إما بسبب الاحتلال الإسرائيلي أو تداعيات الحرب الأهلية. فيما صعد آخرون من المقتدرين مادياً من صيدا إلى عبرا، كما إلى البلدات المطلة على صيدا كالهلالية والبرامية ومجدليون، للهرب من اكتظاظ المدينة. هؤلاء ينزلقون تدريجياً إلى العادات المجتمعية المدينية. تنوع سكان المبنى الواحد طائفياً ومناطقياً يساهم أحياناً كثيرة في حصر العلاقة بين الجيران بـ«مرحبا».

كيف تكونت عبرا الجديدة التي هي في الأساس أراض تابعة لوقف البطريركية الكاثوليكية؟

قبل خمسينيات القرن الماضي، كانت هذه الأراضي حقولاً من القمح والحبوب يزرعها أهالي عبرا الأصليون ويعتاشون منها. في الخمسينيات، بدأت البطريركية ببيع الأراضي تدريجياً لرجال أعمال ومستثمري عقارات. أول الأبنية أنشأته البطريركية عام 1960، تبعها صيداوي مسيحي يدعى عادل النحاس أنشأ مبنى ثانياً، قبل أن يسير على دربهما العشرات. بعد انتخاب أول مجلس بلدي في عبرا عام 1966، قررت البلدية إخضاع المنطقة للتنظيم المدني بالتعاون مع نقابة المهندسين. تأسست عبرا الجديدة على قاعدة من المربعات المتجاورة تضم عدداً من الأبنية لا يتجاوز ارتفاع الواحد منها ثلاثة طوابق. إلا أن الحرب الأهلية بداية، ثم الاجتياح الإسرائيلي وتهجير أهالي عبرا وبلديتها عام 1985، «فرّخ» أبنية عشوائية متفاوتة الأحجام والارتفاعات. مع عودة أهالي عبرا وبلديتها عام 1992، جرت محاولة لضبط التمدد العشوائي الجديد. أما ما قد أنجز فقد بات امراً واقعاً وسمحت الدولة بشرعنة المخالفات. لكن التهجير لم يغير في شكلها العمراني فحسب، بل غيّر الخريطة الديموغرافية لصالح المسلمين وفرض تقلصاً في عدد المسيحيين المقيمين في عبرا الجديدة. إذ باع هؤلاء أملاكهم وهم في «منفاهم». حالياً، لا يزيد عدد المقيمين من أبناء عبرا الضيعة المجاورة، على خمس عائلات من أصل عشرين ألفاً. مع ذلك، لا تزال عبرا الجديدة تحتفظ بشيء من مسيحيتها. مدرستا مكسيموس وراهبات عبرا المريميات تجذبان ليس مسيحيي المنطقة فحسب، بل عدداً كبيراً من «أبناء الإسلام». كأن المدرستين تحاولان التعويض عن عدم وجود كنيسة في عبرا الجديدة بالمقارنة مع عدد المساجد السنة التي أنشئت لمواكبة السكان الجدد. فهل يعتبر الأسير التغير الديموغرافي هيمنة إسلامية على المسيحيين على غرار ما يكيله من اتهامات لحزب الله بمحاولة الهيمنة على عبرا؟

قبل أسابيع، اخترع الأسير مشكلة شقتين تقعان في نقطة وسطية بين المدرستين ومسجد بلال، صنفهما بأنهما مركزان لحزب الله يستخدمهما كنقطة رصد له بهدف اغتياله. في الظاهر لم يرصد جيران الشقتين أي حادث يدفع إلى إعلان الحرب عليهما. القوى الأمنية التي كشفت على الشقتين أفادت بأن إحداهما شاغرة بعد اغتيال صاحبها القيادي في الحزب الشهيد أبو حسن سلامة. فيما الثانية يشغلها طلاب التعبئة التربوية في الحزب الذي حوّلها منذ عام 1996 إلى «فوييه» لمن يدرس في الجامعات القريبة. وإذا كانت الشقتان بريئتين من تهم الأسير، إلا أن ذلك لا يعني أن لا وجود للحزب. في الظاهر، لا مراكز من أي نوع للحزب أو رايات أو لافتات، لا في عبرا ولا في جوارها المسيحي، لكن يوجد عناصر ومناصرون له. فالشيعة المقيمون في عبرا الجديدة كثر. ومن بين هؤلاء، عدد كبير من المنتمين أو المحسوبين على الحزب، يقيمون منذ سنوات طويلة. وبرغم نفوذهم الاجتماعي والمادي وحضورهم العددي، إلا أنهم لا يمارسون حزبيتهم أو شيعيتهم هنا. على سبيل المثال، منذ سنوات حاول بعض السكان، وبمبادرة فردية، تنظيم مجالس عاشورائية سنوية في منازلهم بسبب عدم وجود مصلى أو حسينية أو أي مركز ديني شيعي في المنطقة. ارتفعت أصوات رافضة، فما كان من الحزب نفسه إلا أن منع تنظيم الشعائر، حرصاً على الرضا العام.

هذا عن «الضيوف» فماذا عن أصحاب الأرض؟. في الشكل، تبدو عبرا الضيعة مستقلة ومنعزلة عن قسمها الجديد، برغم أنه يتبع لبلديتها عقارياً وإدارياً. مفترق خاص ينقلنا نزولاً من الطريق العام نحو الضيعة. هنا بيوت حديثة الإنشاء. جميعها أعيد بناؤها بدءاً من عام 1992، مذ عاد أصحابها الذين لم يتجاوزوا الستمئة من أصل ألف وثمانمئة نسمة. في مثل هذه الأيام قبل 28 عاماً، وخلال معارك شرقي صيدا، قصفت البلدة ولغّمت بيوتها قبل أن يجرف ركامها وتسوّى بالأرض. منذ سنوات، اقتصرت علاقة عبرا الضيعة بعبرا الجديدة، عموماً، على التسوق. اختلاف الثقافات يدفع أهلها على سبيل المثال إلى قصد المطاعم في البلدات المسيحية وصولاً إلى جزين. وهو ما يفعله سكان صيدا وعبرا الجديدة ممن يتناولون الكحول التي انقطع بيعها منذ الثمانينيات بعد حملة تفجير وإقفال محالها. علماً بأن عبرا الجديدة مذ كان الكثير من سكانها مسيحيين، كانت تسمى شارع الحمرا. مطاعم وحانات وأول مطعم بيتزا جعلت شارعها الرئيسي مقصداً لـ «الكزدورة».

الانفصال بين «العبراوين» كرسه رفض البلدية دمج المقيمين على أراضيها في لوائحها، وأجمع سكانها وفعالياتها ورجال الدين على رفض «توطين» أي منهم فيها حرصاً على وجودها الديموغرافي. وعليه، فإن مجلس بلديتها المسيحي برئيسه وأعضائه التسعة يدير شؤون العشرين ألف ضيف. عضو مجلس البلدية نعمان سليمان استغرب جعل بلدة عبرا المسيحية ساحة للصراع السني ــــ الشيعي. «شو خصنا نحنا؟» يتساءل، مشيراً إلى أوجاع البلدة التي تكفيها والتي دفعت ثمن الاقتتال المذهبي الذي اشتركت فيه أطراف لا تزال تشكل أبواقاً طائفية حتى اليوم. لكن «البيوت التي عادت للحياة بعد الهدم ترفض أن تموت مجدداً» يصر سليمان الذي يقر بخشية الكثيرين من اندلاع التطهير الطائفي مجدداً. في عبرا يتردد انطباع أن «الأسير بعد أن يخلص من الشيعة ويهجرهم من عبرا سينتقل لتهجير المسيحيين». علماً بأن الأخير لا ينفك يذكر، كجزء من فضائله، أنه سني يقيم في بلدة مسيحية منذ عام 1997. عبرا في المقابل لا تكره الأسير وإن كان بعضها لا يحبه أو يخشاه. يذكرون أنه منذ عامين يقصد مقر البلدية في الأعياد المسيحية ليقدم التهاني والهدايا. بديبلوماسية حذرة يتحدث إلينا رجا وقسطا قسطنطين من فعاليات البلدة وأعضاء لجنة الوقف، عن النأي بالنفس المتبادل بين عبرا الضيعة من جهة وعبرا الجديدة بأسيرها ومعاركه من جهة أخرى. النأي وصل إلى حد عدم تدخل البلدية بشأن المربع الأمني والخيمة، وهما بحاجة لترخيص منها. ولماذا الحاجة لرأي البلدية ما دام وزير الداخلية والبلديات نفسه يوعز بالتغاضي عما يفعله الأسير؟.

 

ناطورة المقابر

 

في مجالس عبرا الخاصة، يحبس كثيرون أنفاسهم مما ينتظرهم. الذكرى الثامنة والعشرون لتهجيرهم تعود هذا العام ككابوس يقرع رؤوسهم. تصاعد التيارات الإسلامية المتشددة في صيدا وعين الحلوة لا يطمئن على المدى البعيد. لكن حتى ذلك الحين، فإن الأسير برأي الكثيرين «بيكفي وبيوفي». ينقل البعض أن أحد حراس المربع الأمني تهجم على أحد أبناء البلدة بسبب تعليقه صليباً في سيارته. بالإضافة إلى الشعارات التي كتبت مراراً على جدران المدرستين المسيحيتين في الأشهر الأخيرة وفيها: «فلوا المدرسة والدير للبيع». مع ذلك، يقلل البعض حتى الآن من تداعيات معارك الأسير ويستبعد أن تتحول عبرا الضيعة إلى خط تماس. يستند هؤلاء إلى أن الأسير يقاتل طواحين الهواء. علماً بأن موفداً من حزب الله يزور عبرا الضيعة بشكل مستمر ويؤكد لفعاليتها أنه «لن يتحول إلى فريق في اقتتال مذهبي ولن يقوم بأي عمل يضير مسيحيي المنطقة».

وإذا كان انضباط الحزب وتفاهمه مع الجنرال ميشال عون صمام أمان للبعض في عبرا الضيعة، فإن تجربة التهجير نفسها لقنتها دروساً. جورج عبدو يؤكد أن «مش الإسلام هجرونا بل قياداتنا». يحفظ الكثيرون أن أول ما نطق به النائب الراحل مصطفى سعد بعد استفاقته من غيبوبته إثر محاولة اغتياله قبل 3 أشهر من التهجير، كان دعوة مسيحيي شرق صيدا للعودة. مصطفى وشقيقه أسامة وحركة أمل تقدموا لاحقاً مسيرات العودة واستعادة الأهالي لبيوتهم وأملاكهم. في المقابل، لا ينسى الكثيرون دور وليد جنبلاط وجرافات مؤسسة رفيق الحريري في التهجير والتدمير. كما يذكرون جيداً أن الأسير ليس أول من طرح فكرة إنشاء فصيل سني مسلح، بل الحريري نفسه الذي هدف منه إلى إقامة دولة سنية من صيدا حتى كفرفالوس مروراً بعبرا وجاراتها. وحتى بعد اغتياله، عاد الحريري إلى عبرا الضيعة عبر صورة كبيرة رفعت بمحاذاة مدافنها لناحية مجدليون. الصورة التي وصفت بـ «ناطورة المقابر» أزيلت قبل عام، بعد احتجاجات ومراجعات عدة من الأهالي.


Script executed in 0.19747304916382