أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

ديغول أبو طاس، حرية في ذاكرة الوطن

الخميس 16 أيار , 2013 12:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 6,882 زائر

ديغول أبو طاس، حرية في ذاكرة الوطن

ديغول أبو طاس، واحدٌ من أولئك "النزلاء" الذين حجبتهم الجدران المتعفنة لذلك المعتقل عن حريتهم. عامٌ من القهر قضاه ديغول في الأسر، ندخل معه على أبواب "أيام إلى التحرير" إلى ذاكرته المليئة بالصور، وذكريات سنوات النضال، مستعيدين معاً أيام البطولة، والمقاومة... والتحرير

إلى بلدة رميش توجّهنا، أمتارٌ قليلة تفصلنا عن الحدود مع فلسطين المحتلة، مهد السيد المسيح (ع) ولرميش مع الروح القدس حكايات صلاةٍ وابتهال، وحكايات أناسٍ عشقوا الأرض، عُمدّوا بترابها أطفالاً، وصلبوا الخوف فوق شتلة تبغٍ حبلى بالكرامة، فكان لها ما للجنوب وأهله، من محيطٍ لم يرَ في رميش يوماً إلا حضناً دافئاً لبنت جبيل، وقمراً يعانق نجوم عيتا الشعب. 

دخلنا الى منزل ديغول أبو طاس، فاستقبلتنا زوجته في غرفةٍ تشع من زواياها كلمات الله، الكتاب المقدس في ركن الغرفة، وآياتٌ من القرآن تزين جدرانها. لحظاتٌ ودخل الأسير المحرر، لا أثر للقيد على روحه ومعصميه، كان طليقاً، سرد لنا الحكاية بكلّ فصولها، "إعتقلت في 16 أب 1999"، من عمله ساقه العملاء للتحقيق معه ثم أعيد في نفس اليوم، وبعد يومين أعيد اعتقاله من داخل بلدة رميش، "وُضِعتُ في سيارة، حيث كانت يداي مكبلتين من الخلف، وكانت عيناي معصوبتين، كانت السيارة أيضاً مقفلةً بستائر القماش من الداخل، إستغرقت "الرحلة" حوالي ساعة ونصف إلى المعتقل، كان بجانبي أحد العملاء مشهراً سلاحه نحوي، وكنت ممدداً على المقعد الخلفي للسيارة، كان يوجه تهديداته كلما حاولت أن أقلب جسدي يميناً أو شمالاً، كانت تهمتي أني عميلٌ لحزب الله"

"معتقل الخيام هو من أقسى المعتقلات التي أقامها الإحتلال الإسرائيلي، وقد مورس فيه جميع أنواع الظلم والقهر، والذي لا يمكن وصفه بسطور، هو الجدران العازلة عن العالم" يقول ديغول، وبين الكلمات ألف قهرٍ لا يُحكى، وأنين صمتٍ أبلغ من التعبير.

روى ديغول حكايات العذاب باختصار، لم يمعن في التفاصيل كثيراً، كأنه يركض نحو أيام أنسَتْه العام الذي قضاه وراء القضبان، وأنْسَت العشرات مثله أياماً وسنوات، "لأسبوعٍ كاملٍ لم نكن على علمٍ بما يجري في الخارج، كنا نسمع صوت قصفٍ مدفعي وأصوات الطائرات في الأجواء على مدار الساعة، لكن لم يكن بمقدورنا أن نحدّد ما الأمر، كنا نحلّل فيما بيننا على أنها واحدة من العمليات الإسرائيلية، شبيهة بعملية عناقيد الغضب، وفي الأيام الأخيرة سمعنا قصفاً عنيفاً، عرفنا فيما أن بعد أنه قصفٌ متبادل!"

"في اليوم الأخير شهد المعتقل ضجيجاً صاخباً من ساعات الصباح الأولى، حالة إرباك بين ضباط وعناصر العملاء، بعدها بدأت الأخبار تتسرّب عبر عملاء الزنازين : دفعة من الأسرى سترحل إلى فلسطين، ستنقل زنزانة النساء إلى قرب الرجال، ستتمّ تصيفة المعتقلين ..."

ساد المعتقل حالةٌ من الإرباك، حتى بين صفوف المعتقلين، فقد اختفت أنّات الأسرى المتصاعدة من غرف التعذيب، وأصبح من الإستحالة تقدير ما يحصل.

الصمت سيد المكان، "كنا نتبادل المعلومات عبر الهمس، إلى أن وصَلَنا خبرٌ عن تجمّع الناس في الخارج، بالقرب من المعتقل، يرافقه صوت تكبيرٍ وتهليل، قمنا بتحليل الأمر على غرار ما سمعنا أنهم بدأوا بتصفيتنا وأنه قد بدأ إطلاق النار، فشرعنا نقرع أبواب الزنازين، فإذا بالأهالي يتوافدون الى المعتقل، ليبدأ العناق من خلف القضبان والأبواب، لقد تحررتم". 

دموع ديغول كانت كفيلة بالتعبير عن ذلك الشعور، الشعور بالحرية، فما حدث لا يُنسى، ولا يُمحى من الذاكرة، "لم نعرف المخرج، مشينا وراء الناس للإستدلال على منفذ الخروج، علّنا نرى ونصل لباب الحرية الذي افتقدنا رؤيته لسنين مضت بين جدرانٍ وشبابيك لا تعرف سوى بصيص النور والأمل الذي لطالما انتظرناه".

ديغول لم ينسَ ولم تثقب الأيام والسنين ذاكرته برغم من أن مدة أسْرِه لم تتعدَّ السنة، إلا أن هذه المدة كانت كفيلة برسم مسار حياةٍ جديدةٍ بالنسبة له، وولّدت فيه ثقافة الأرض والمقاومة، ثقافة الدفاع عن الوطن والكرامة، "أتمنى أن يتعلم الجيل القادم من حكايات المقاومين والشهداء والأسرى والجرحى، من أجل سدّ ثقوب الذاكرة، كلّنا طائفةٌ واحدةٌ أمام تحرير الأرض. لقد عانينا من الإحتلال أعواماً طويلة، سيطر خلالها العدو على تحركاتنا وكتم على أنفاسنا، ومارس فينا كل أنواع الإجرام، لم تكن مرحلة سهلة، وما كانت لتنتهي تلك المرحلة لولا المقاومة وتضحياتها وإصرارها على تحرير الأرض، هذه المقاومة التي حرّرت الأرض من المحتل، وحرّرت الإنسان من براثن السجان وقهره وظلمه. باختصار لقد حرّرت المقاومة البشر والحجر، حرّرت الوطن، وقصص التحرير هذه مكتوبة في كل زاوية من المنطقة الحدودية، عن كل تلةٍ تحصّن فيها الإحتلال وما كانت حصناً له، وعلى جدران المعتقل الذي شهد طغيان السجان، ثم شهد إندحاره خائباً ذليلاً". 

»  أمجاد جواد

Script executed in 0.16636514663696