في 22 أيار عام 2000، في بيروت، أخبار تتلاحق عن بدء الدخول إلى المناطق التي كانت محتلة. خبر يتبعه آخر كزخات رصاص. لا أذكر كيف بدأت الأمور، إلا أن ما أذكره اننا كنا نترقب ذكر اسم بنت جبيل أو أي قرية قريبة منها، فيما، ولا أدري لماذا، كانت الأخبار الباقية عن قرى أخرى وكأنها تقع في عالم آخر.
أضنانا الانتظار، بالرغم من اننا انتظرنا هذا اليوم لسنوات ببرودة أقل وصبر أطول. قررنا الذهاب نسابق أشواقنا. أسند رأسي على المقعد الخلفي في السيارة، استعيد صور رحلاتنا الجنوبية: طرق تملأها الحفر، حقول التبغ على مد النظر، وجوه سمراء، وتلة تبنين، آخر نقاط رحلاتنا الجنوبية وأعلاها. هناك في آخر النهار، كنا نقف ويطول وقوفنا وننظر إلى المدى البعيد علنا نشتم عبقاً من تلك الأرض، ونشهق حتى آخر ذرة هواء لعلنا نلتقط ذكرى من زمن الطفولة. هناك على تلة تبنين كنا نتذوق آخر طعم للحرية ونعود.
في ذلك اليوم أيضاً، وصلنا إلى تبنين، نظرت إلى تلك التلة. للمرة الأولى أراها كريهة المنظر والمعنى، حسبتها يومها أنها كانت حائط مبكانا. أدرت وجهي كي لا استعيد ذكراها. تابعنا طريقنا هذه المرة، مشينا إلى بيت ياحون حيث سبقتنا الجموع. هنا الحال أجمل، فالنظر غير محجوب والعبق أكثر اريجاً. مضى النهار بين ترقب وانتظار وتذمر. لم يبق أمامنا إلا كونين فلماذا الانتظار؟ حسبنا أنفسنا قادة الميدان، نستعجل النصر وهم يمنعوننا. كأننا نحن من قاتلنا وحررنا، وكأنهم هم باتوا الطارئين على المشهد، حتى حامت «الأباتشي» فوقنا، وكانت زخات الرصاص التي اطلقتها بمثابة الصفعة التي أعادتنا الى واقعنا. هم اسياد الميدان هنا، ونحن من نتلطى تحت السقوف.
حلّ الليل فتفرقت الجموع، وبقي القليل ممن عزّت عليهم العودة. واستقر رأيي أن أبيت ليلة على ثغور لطالما سمعنا وقرأنا عنها. بتنا ليلتنا في قبو منزل متهالك. لا أعرف كيف بقي وعاند الاحتلال بالرغم من التدمير الذي يحوطه. أذكر يومها، وأمام بصيص شمعة كسرت سواد العتمة، وجوه مقاومين مطمئنة للنصر. الحاج قاسم (خالد بزي) كان بيننا، ووجوه أخرى نألفها ولا نعرفها، والنائب نزيه منصور.
صباح وأذان مسجد يخرق ضباب أيار الندي، ونسائم نشتمها للمرة الأولى. مواكب سيارة فجأة في كل مكان. الحاج قاسم يرسم صورة الوضع الميداني ويوعز بالانطلاق. انطلقنا، يحجب الضباب رؤيتنا وكأننا نسير إلى المجهول. كل شيء كان جديداً بالنسبة لنا: الوجوه التي تتشح بالدهشة، الحقول والطرق. طريق بطول سنوات الانتظار، حسبنا المسافة دهراً، وهي اليوم لا تبعد إلا دقائق. هنا كان لكل شيء قصته وعبوته ولكل صخرة وشجرة رواية عن رجال مروا يوماً او كمنوا.
صف الهوا، المستشفى، موقعا الـ 17 اللحدي والإسرائيلي. حكايات الأهل عن الحقول والبيادر، عن التين والزيتون. الاستشهادي صلاح غندور (ملاك). ساحة السوق وجموع أصابتها هستيريا الانتصار والتحرير. عناق وقبلات وأشخاص لا أعرف معظمهم وهم على الأرجح لا يعرفونني. كل شيء كان عفوياً. جموع تحتشد، صوت طبل. تبدأ الدبكة. تهيم بي قدماي بين أزقة البلدة التي عشقتها. بعض الوجوه العجوزة تطل من وراء النوافذ. ألقي عليها التحية، ولا أسمع إلا تمتمات، وأنا أصلاً لا أنتظر الأجوبة. وجدران وحجارة أكلها العمر على مهل. اتذكر وصية والدي بالامس: «لا تنسَ ان تطل على البيت».
إلى السد العالي حيث البيت الذي ولدت فيه. هو عبارة عن غرفة واحدة قائمة، حضنت يوماً أكثر من عشرين نفساً من الأقارب إبان الاجتياح العام 1982. تحيطه الصنوبرات الثلاث كالحراس وشجرتا التين لا تزالان هنا. تسلقت درجه العالي. وقفت بجانب الياسمينة، لا يزال أريجها كما هو. قفزت إلى جانب التينة. حملت كمشة تراب من تحتها حيث نلعب. تأملتها. أهي أصغر يا ترى، أم نحن كبرنا؟