بقلم كامل محمود بزي
يتدافع أحبابنا نحو الموت واحداً إثر واحدٍ، وتُطوى أيَّامهم لولوج عالم الآخرة، التي هي دار الحقّ؛ كما ورد في سورة الحج، "بسم الله الرحمن الرحيم: وأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها وأنَّ الله يبعثُ من في القبور"
فالناس جميعهم راجعون إلى ربِّهم بعد موتهم، وآيات القرآن الكريم تُلفت أنظار الناس إلى هذه الحقيقة وتركز القول في مناسباتٍ كثيرةٍ على فكرة الإيمان بالدار الآخرة، لأنَّ الإيمان بها يُرقِّقُ القلوب ويفجِّرُ الطاقات نحو الخير ويأخذ بيد المؤمن إلى طريق العفة والإستقامة.
"بسم الله الرحمن الرحيم: يا قومِ إنَّما الحياة الدنيا متاعٌ وإنَّ الآخرةَ هي دار القرار"
يقول الشاعر:
وللدنيا دوائرُ دائِرتٌ لتذهب بالعزيز وبالذليلِ
وللدنيا يدٌ تهِبُ المنايا وتَسْتَلِبُ الخليلَ من الخليلِ
سبقنا إلى الدار الآخرة راضين مرضيِّين ثلاثة مؤمنين من أهلنا شاءت الإرادة الإلهية منذ أيام أن تجمع في الموت ما لم يُجمع في الحياة.
نذكرهم ولو بكلمة قصيرة داعين لهم بالرحمة والمغفرة ومأوى الجنان؛ المرحوم علي إبراهيم ملحم سعد، المرحومة ليلى ناجي شرارة، والمرحوم الحاج وجيه بزي.
مبتدئين بالمرحوم علي إبراهيم ملحم سعد(أبي إبراهيم)
وفيه أقول:
أيُّها الرجل المتفاني في المودة والإخلاص. أيُّها القريب الحبيب الذي كنَّا نسعد بلقائِك وبروحِك المرحة وظرفِكَ المعهود. أَيُّهَا الكادِحُ الذي لم يتوقف يوماً عن مجاهدة الحياة لتأمين العيش الكريم لنفسه ولخاصَّتِهِ.
إنَّ ضغط المعاناة التي واجهتها في حياتك والصعوبات الصحية التي عانيتها قد لَوَتْها عزيمتك، حيثُ كُنتَ خلالها جبلاً بوجهِ الريح، كما لم تستطع ان تَسرِقَ مِنك البسمة التي كُنتَ توَّزعها على جميع المحيطين بك.
إنَّ حياة الغربةِ التي قاسيتَها وأبْقَتْ في قلبِكَ غصَّة حزن تمنَّيْتَ خلالها العودة إلى بنت جبيل تحدوك أشْرِعَةِ الشوق إلى رَيْحانَتِها "ساحةِ النبيَّةِ" ويشُدُّك الشوق إلى بيتك المستريحِ كَمَاسةِ نجمٍ في موطن الكرامةِ والعزَّة والشرف والإباء على تُخُوم عيناتا وعيترون ومارون. لكنَّك عُدْتَ بِجسدك الطاهر لِترقدَ في ثراها المِسْكِ ويغفو غَفْوة الأبد في رحاب الأرضِ التي أحببتَ.
غِبتَ أيُّها الصديق الحبيب، فخسرنا فيك أحد المحبين المخلصين وخسرنا فيك رفيقاً وأنيساً وجليساً يُبَّدِدُ وَحْشةَ الليالي.ستبقى طيبتك مظَلِّلَةً أمكنة ذكراك، كما سنبقى مُواصلين نهجك في محبة الناس تحت خيمة ربِّ الناس.
وإذ رحلتَ عنَّا أيها العزيز الغالي إلى رحابِ الله - بعد أن أعطيتَ وقدَّمتَ وأخلصتَ لعائِلتكَ زوجتك وأولادك وبناتك، وبعد أن عِشت إبناً باراً لوالديه وصديقاً طيباً وأخاً حميماً لن تغيب أنوار ذكراك بما عاهدتَّ الله عليه.
نسأله - سبحانه وتعالى - لكَ الرحمة الواسعة والمغفرة المرجوة وإلى روحك الطاهرة / وإلى أرواح المرحومين والديك وشقيقيك وشقيقتيك نهدي ثواب سورة الفاتحة مقرونة بالصلاة على محمد وآل محمد، داعين الباري - عزَّ وجلّ - أن يلهم ذويك جميل الصبر وعظيم السلوان.
امَّا انتِ يا فقيدتنا الغالية ليلى
أيتها الزهرة التي ذوت في غير أوانها كم ذُقتِ مرارة اليتم في حياتك منذ الصغر، وعانيتِ من لفحات الحزن في فقدان الشقيق خلال رحلة الحياة؛ وحين انْقَضَّ عليك المرض وهاجمكِ بأدوائه، كان منهزماً أمام إيمانك وصبرك الجميل.
ولكن لا رادَّ لحكم الله وقضائه، توقفَت أنفاسك كما توقف الفرح في عينيِّ أمك الحنون، فغادرت روحك النقية إلى بارئها راضية مرضية.
وهنا أتوجه بكلمات العزاء إلى الأم المفجوعة الثكلى الحاجة مريم
فأقول:
لقد انطفأَ قنديل الحياة باكراً بفقدان الزوج، فواجهتِ نوائب الدهر بأنوار الصبر والصلاة والدعاء. رضيتِ بحكم الله وآمنتِ بأنَّه قادر على تبديد ظلام الحياة، فتوكلتِ عليه وكان لكِ نعم الوكيل.
بهذا النهج الخلقي الرفيع وبهذا الإيمان الراسخ قاومتِ عواصف الزمن؛ وبعزم وارادة عُلْويَّةٍ ملأتِ قلوب أطفالك بالحب والتفاؤل والأمل وسَقيْتِهم مكارِم الأخلاق.
لكِ العزاء كما لولديكِ حسن وسامر ولابنتكِ كَوكب. رحِمَ الله زوجك المرحوم ناجي وولدكِ المرحوم حسَّان وإلى روحيهما وروح المرحومة ليلى نهدي ثواب سورة الفاتحة مقرونة بالصلاة على محمد وآل محمد. داعين الله - سبحانه - لها حسن المآب مع الصِّدِّيقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام).
ومن محطةٍ حزينةٍ إلى أخرى ننتقل إلى ذكرى الوجيه العزيز الحاج وجيه بزي
وداعاً " أيُّها الوجيه " الذي لم يرحل
من يفعل الخير يُولَد مُحباً للآخرين، والمسألة هنا هي نفسيَّةٌ وتربويَّةٌ بالدرجة الأولى، وسعادتها تكمن في ما يرافقها عادةً من سماحةِ النفسِ ورهافةِ الحس والنخوة والأريحيَّة في البذل بلا حدودٍ، ناهيك عن التنوِّر بعقيدة الإيمان.
المرحوم الحاج وجيه بزي صاحب القلب الكبير المُفعم بالأحاسيس هو أحدُ دعاة الخير وفاعليه؛ إتَّصف بالصدق والنُّبل والعفوية وعمق الإلتزام.
وحين أتذكر اللحظات الأولى من علاقتنا قبل ما يقرب الأربعين عاماً... أتساءلُ: كيف تنسج الأيام أواصِر المحبة وتنمي الإحترام المتبادل فتربط القلوب المتآلفة، كما لو كانت مَسْبَحةً منتظِمة العقدِ.
الحاج وجيه بزي الذي ترددت عليه بشكلٍ متواصل، وتردَّد عليَّ طوال سِنِيِّ إقامتهِ في المغترب دون إنقطاع حبل المودة والمواصلة بيننا. شدَّني إليه عمل الخير وآزرنا في ذلك إخوةٌ أكارم كرَّسوا جُلَّ أوقاتهم - من خلال "مشروع الخمسة دولارات" - لأجل تخفيف معاناة المحتاجين من أهلنا أثناء السنين العجاف التي مرَّت على بلدتنا بنت جبيل متعاونين ومسترشدين بتوجيهات علّاَمتنا الحبيب سماحة السيِّد علي الحكيم.
كُنتُ أرى في "الوجيه" دائماً المثابرة الدؤوب والسعي المستمر بلا كلل أو ملل لجمع المساعدات تَوَخِّياً لِسدِّ رمقِ يتيمٍ أو لإغاثةِ ملهوفٍ أو التنفيس عن مكروب.
الحاج وجيه: أيُّها الصديق الطيب المعشر، المحبُّ لِخِلانه: لقد تجسَّدتْ فيك الأخلاق الحسنة ووعِيَت في قلبك وعقلك المعاني السامية للإخلاص والتسامح والوفاء.
ولسْتُ أدري كيف أرثيكَ أيُّها الأخ الحبيب وقلبي يخفق مع الشاعر بدويِّ الجبل مُرَدِّداً:
غاب عند الثرى أحبَّاء قلبي فالثرى وحدَهُ الحبيب الخليلُ
وسَقوني على الفراق دموعي كيف يروي من الجحيم الغليلُ
الحاج وجيه: فقدناك وافتقدتكَ ساحات الخير، رحلتَ حاملاً معك كتاباً نيِّراً من الأعمال الصالحة - كما رحل قبلك الحبيبان الحاج نزيه حميِّد والحاج رشيد دباجة - فتركْتَ أثراً طيِّباً وذِكراً جميلاً لا ينسى ودمعةً في عيوننا تخترقُ حياتنا الرَّاكدة على الدوام.
وداعاً أيها "الوجيه" الذي لم يرحل
ستبقى في القلب ساكناً، وفي الذاكرة ماثلاً، فطيَّب الله ثراك. إلى روحك الطاهرة وإلى أرواح المرحومين والديكَ وشقيقيكَ نهدي ثواب سورة الفاتحة مقرونة بالصلاة على محمد وآل محمد، سائلينهُ -سبحانه- أن يتغمَّد الفقيد بواسع رحمته ويدخله فسيح جنَّاته ولأهله مواساة الصبر والسلوان، إنَّه سميعٌ مجيب.