أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

سوريا من الممانعة الى الدولة المقاومة

الأحد 11 آب , 2013 10:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 2,872 زائر

سوريا من الممانعة الى الدولة المقاومة

لم يوضع هذا التصريح ذو الأهمية القصوى في سياق تحليل لعمق مضمونه الذي يرتقي به إلى مستوى الانعطافة التاريخية و الانتقال الراديكالي بسوريا إلى موقع استراتيجي أخر بكل ما تحمله الكلمة من مراجعة جذرية للأسس الفكرية و السياسية لصانع القرار في الدولة الوطنية السورية.

لقد فرض اقتحام المشروع الصهيوني للمشهد الجيوستراتيجي للمشرق كجزء من الفكر الغربي في شكله الكولونيالي بتأسيسه لكيان وظيفي في القلب من هذا المشرق ,تحديا كبيرا طرحت معه كل الأسئلة المصيرية في عمق النقاش الفكري الدائر حول النهضة و الوحدة و القومية .....الخ ,لكن هذا التحدي حمل طابعا استثنائيا عندما تعلق الأمر بسوريا بحيث لا يمكن معه لأي دارس موضوعي التقليل من تأثيره المباشر في التاريخ السياسي المعاصر لها .

هذه "الاستثنائية"في التحدي تتصل بأسباب موضوعية تتعلق بالدور الجوهري "للنخبة السورية" في تشكيل البنية الفكرية و الإطار الابستيمي لما أصبح يعرف بالمشروع النهضوي العربي و في قلبه فكرة القومية العربية ,فكل ما يتصل بالمضمون المعرفي لهذا المشروع أسس له من داخل جغرافيا سوريا الطبيعية أو بلاد الشام ,و عرف تأصيلا بنيويا ضمن هذه البيئة السورية ,بحيث أن أي تفصيل لكل مباحث خطاب النهضة العربية الفكري إلا و كانت سوسيولوجيا هذه البيئة في صلبه ,فتراث الحداثة العربي منذ القرن التاسع عشر في شكله اللغوي و الأدبي كتعبير عن انبعاث الذات العربية في العصر الحديث و التي تعتبر اللغة أهم مقوماتها كما في شكله الإبداعي التنويري في كل مجالات الثقافة و الفنون و على رأسها الصحافة انبثق من جبل لبنان على يد رواد من قبيل فارس الشدياق ,جرجي زيدان ,جبران خليل جبران ....الخ ,و الأسئلة الصادمة المعبرة عن ما يسمى سيكولوجيا بأسئلة "|القلق الحضاري " في الفكر النهضوي العربي من مثل العلاقة بين العروبة و الإسلام إلى الوحدة و التقارب بين مختلف المدارس الإسلامية لا تخرج عن إطار انتاجات نخبة مفكري و علماء هذه البيئة السورية من مثل طاهر الجزائري ,الكواكبي ,عبد الحسين شرف الدين .......الخ ,كما أن حقيقة تأسيس هذا الكيان ضمن الجغرافيا السورية أي سوريا الجنوبية –فلسطين- يقع في قلب هذا التحدي الذي فرض على سوريا دورا رئيسيا في مواجهته و موقعا متقدما في إطار ما سمي بالصراع العربي-الاسرائيلي.

خاضت سوريا كل الحروب العربية على إسرائيل ضمن إستراتيجية اعتمدتها كل الدول العربية تمثلت في حرب التحرير وفق آليات الاشتباك الكلاسيكية كان أخرها حرب 1973-التي كانت نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصدام العسكري مع إسرائيل بوجهه التقليدي ,التحول لا يتأتى من كونها فشلت في تحرير الأرض العربية المحتلة و إنما في قلبها لموازين القوة العربية في مواجهة إسرائيل ,نتيجة الاختلاف بين نظرتي الحليفين العربيين الأساسيين في الحرب بين ,نظرة الرئيس حافظ الأسد الذي خاض الحرب وفق مشروع تحريري ينطلق من التناقض الوجودي مع إسرائيل و بين نظرة الرئيس السادات الذي أراد تجيير نتائجها لصالح مشروع التسوية مع إسرائيل الذي توج بمعاهدة "كامب ديفد"التي تجاوزت طبيعتها كونها اتفاقية سلام مع إسرائيل إلى مرحلة نقل مصر بكل ثقلها إلى المحور الأمريكي المعادي ضمن أسس جديدة صيغت على أساس محورية القبول بإسرائيل في المنطقة و تهيئة الساحة سياسيا و فكريا و سيكولوجيا للتعاطي مع إسرائيل كواقع مقبول .

تصرف الرئيس الأسد الذي تخلى عنه الحليف المصري في نصف المعركة بمنطق الرافض لهذا الخيار وواصل الحرب بشراسة و لم يوقع على اتفاق الهدنة إلا في عام 1974 فيما عرف باتفاقية فض الاشتباك ,لم تكن مقاربة الأسد لنتائج الحرب بمنطق المهزوم عسكريا الذي يبني خياراته على ضوء إخفاقه الميداني و يقبل بشروط المنتصر و يخضع لمتطلباته و إنما صاغ إستراتيجية جديدة زاوجت بين بنية فكرية و عقائدية رافضة للخضوع للاستسلام للإرادة الإسرائيلية و غطائها الأمريكي و بين ما يمليه الواقع الجديد المتمثل في خروج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل و تحدي بقاء سوريا كدولة مواجهة وحيدة , تمثلت في الإبقاء على العلاقة مع القضية الفلسطينية ضمن إطار عقائدي يصر على عدم فصلها عن الصراع الوجودي مع إسرائيل بعدم قبول أي تسويات على أساس إرجاع الأراضي السورية المحتلة مقابل تصفية القضية الفلسطينية ,و ترسيخ رفض الاحتلال بدعم المقاومة للإبقاء على جذوة الصراع و استمراريته مع اجتناب الاشتباك المباشر مع إسرائيل بما يربك أولوية بناء الدولة الحديثة باقتصاد إنتاجي و مؤسسات قوية و فاعلة و على رأسها المؤسسة العسكرية بما يدعم القرار السياسي المستقل الذي تتطلبه ظروف الصراع الجديدة.

رفض الانخراط في مشاريع التسوية و التنازل و تلافي الصدام المباشر مع العدو , مع دعم حروب شعبية غير متماثلة في مواجهة العدو الإسرائيلي في سياق يبقي على جهوزية الجيش الرادعة لأي عدوان ,أسس لمفهوم جديد في الصراع العربي-الإسرائيلي اصطلح عليه بالممانعة و سماه البعض بنظرية "الحرب خارج الأسوار" و هنا بجدر بنا الإشارة إلى أن الصدام المباشر مع إسرائيل و حتى مع أمريكا حدث في قلب الفترة الزمنية التي عرفت صياغة هذه النظرية فقاتل الجيش العربي السوري في لبنان ببسالة في تصديه للغزو الإسرائيلي للبنان في معركة "السلطان يعقوب" و بيروت و في المعركة الجوية الشهيرة التي خسر فيها الطيران السوري أكثر من 70 طائرة و تصديه للطيران الأمريكي بإسقاط احدي طائراته .

واصلت سوريا بعد انتقال السلطة للرئيس بشار الأسد هذه الإستراتيجية بوتيرة اكبر,تماهت مع المقاومة اللبنانية و الفلسطينية إلى حد الشراكة الكاملة , ووجدت نفسها أمام استحقاق اخطر مما كانت عليه في عهد الرئيس الأسبق حافظ الأسد لجهة دعمها للمقاومة العراقية بالتنسيق مع حليفيها إيران و حزب الله لمقارعة المشروع الأمريكي نفسه من خلال جيشه لا من خلال أداته الإسرائيلية وفي حرب اعتبرها هذا المشروع في عهد المحافظين الجدد بداية لإخضاع المنطقة ككل ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد ,لذا كانت لنتائج هذا الدعم تداعيات تعدت إطارها الإقليمي لتشكل حالة واقعية في الإستراتيجية الدولية مفادها أن دولة إقليمية بإمكانيات متواضعة ساهمت بشكل حاسم في هزيمة المشروع الإمبراطوري الأمريكي في العراق استراتيجيا اظهر محدودية تأثير قوته العسكرية في فرض هيمنته على العالم بما هيا سوريا لأداء دور مهم في بداية بروز نظام دولي متعدد القطبية .

كان صلب سياسة الممانعة أو "الحرب خارج الأسوار"هو رفض التسوية أو الحلول الجزئية مع إسرائيل بما يحافظ على الثوابت الوطنية للدولة السورية و يبقي القضية الفلسطينية في إطارها المترابط و المتكامل ضمن وحدة المسار مع طبيعتها العربية و "السورية الطبيعية "بما يمنع من تصفيتها في صفقات و معاهدات جزئية على غرار أوسلو , أو من خلال مفاوضات 1996 التي رفضت بموجبها سوريا قبول استرجاع الجولان مقابل إبعادها عن لب الصراع ,وهذا ما يفرغ اتهامات أعداء سوريا لها -باستعمال المقاومات الفلسطينية و اللبنانية كأوراق ضغط توضع على طاولة المساومة من اجل الحفاظ على النظام أو من اجل استرجاع الجولان -,من أي مضمون موضوعي أو واقعي فسوريا في قمة إدارتها للصراع ضمن إستراتيجية الممانعة لم تكن تغفل ضرورة الاستعداد التام للمواجهة بالإبقاء على الجهوزية التامة للجيش و إمداده بكل مصادر القوة النوعية الرادعة ,بل و في مواجهة حالات الاختراق داخل أسوار "القلعة الوطنية السورية" نفسها كما حدث في أحداث 1978-1982 إلا أن قمة اقتحام الأسوار بدا مع أحداث 2011 بوصفها عدوانا أمريكيا-صهيونيا بأدوات رجعية تكفيرية محلية و إقليمية تستهدف تدمير "القلعة"من الداخل ,باختراق نسيجها الاجتماعي و الثقافي وسحق قدراتها الاقتصادية و تفكيك بنية دولتها الحديثة و على رأسها المؤسسة العسكرية .

هذا الواقع المستجد هو الذي فرض على سوريا التحول الجذري نحو إستراتيجية جديدة يقع مشروع "الدولة المقاومة"في القلب منها ,ضمن تغييرات ثورية تلامس البنية الفكرية للأساس الإيديولوجي للدولة الوطنية السورية وللواقع الاقتصادي –الاجتماعي و للرؤية الإستراتيجية لأبعاد الصراع ككل ,فرضه موقع سوريا الجديدة كدولة فرضت سياستها واقعا إقليميا و دوليا جديدا جعل منها محورا لصراع على ضوئه تتشكل منظومة دولية جديدة بهيمنة أحادية في طريقها للانكفاء ,و ببروز لقوى دولية على الساحة الدولية كالصين و روسيا و لأخرى إقليمية كإيران.

إن القومية العربية كمشروع نهضوي يستهدف ترسيخ الوعي بالهوية الجامعة للعرب و تأكيد الطموح نحو التشكل ضمن إطار الدولة-الأمة ,و نحو النهضة ضمن سياق العدالة الاجتماعية 

و المواطنة,هي الأساس الإيديولوجي الحاكم في الدولة السورية استطاع الرئيس حافظ الأسد أن يضيف إليه لمسة نابعة من بيئة سوريا الطبيعية المتكئة على ارث حضاري لشعوب سوريا القديمة من سريانية و أرامية و كنعانية ,هذه البنية الإيديولوجية الموحدة للدولة المقاومة السورية و التي تعتبر ضرورة ملحة في مجتمع متعدد مذهبيا و دينيا كسوريا ,تتطلب ترسيخا لأطر و آليات تتيح التجديد عبر إثراء النقاش الفكري للإجابة على كل الأسئلة الفكرية المستجدة و تشكل رابطة وطنية تمنع تحول التعدد الثقافي و الديني و المذهبي في المجتمع إلى أدوات لتفكيك المجتمع و الدولة بتحول هذا التعدد إلى عصبية وفق تعبير ابن خلدون ,تقود إلى تشكيل "هويات جزئية"ذات التعبير الديني غالبا بما يتيح انتعاش الخطاب الطائفي الذي يحول المجتمع إلى كتل عصبوية متصارعة .

إن هذه الرابطة الوطنية التي تمثل الجوهر الإيديولوجي الذي تقوم عليه الدولة المقاومة تتناقض وجوديا مع المشروع الطائفي الذي يستعمل الخطاب الديني لمصلحة هوياته الجزئية المتمثلة في عصبيته الطائفية ,فتصبح معه العلمانية -غير المعادية للأديان التي تعني حرية الاعتقاد

و ممارسته لكل كتلة دينية بدون أي توظيف سياسي للمصالح العصبية ,أو كما يسميه عبد الوهاب المسيري ب "العلمانية الجزئية" -خيار جوهريا ملحا ,كما انه يتناقض بالدرجة نفسها مع الخطاب الإيديولوجي اللبرالي الذي يسقط بطريقة اتوماتيكية آليات و أدوات الديمقراطية المفرغة من أي مضمون مدني على التركيبة الاجتماعية و الثقافية المعقدة للمجتمع التي مازالت تحركها الآليات التقليدية التي تتمحور حول "القبيلة" أو "الطائفة" ,تماما كتحول مسميات ليبرالية كلاحزاب مثلا لمجرد تعبير "حداثي"عن هوية طائفية أو قبلية مثل ما تعبر بعض الأنظمة الديمقراطية الحداثية في شكلها عن مضمون طائفي كما في الحالة اللبنانية ,إن هذه التركيبة المعقدة لمجتمعاتنا لا تحتاج إلى إسقاطات من هذا النوع بقدر ما تحتاج إلى تفاعلات اجتماعية و ثقافية تؤدي إلى قطيعة ابيستيمولوجية مع كل آلياتها القديمة بما يقلل من تائيرها في المجتمع جزئيا أو كليا .

هذه الرابطة الوطنية تعبر عن الحاجة لتحصين الدولة المقاومة التي في صلبها العدالة الاجتماعية ودولة المؤسسات بتحصين استقلالية مؤسسة القضاء و المؤسسة التشريعية بما يؤسس لمنظومة رقابية تردع الفساد الذي يشكل خطرا على وحدة المجتمع لجهة خلقه لثغرة انعدام الثقة بين الدولة و بين الطبقات الشعبية ,كما تقع في صلبها مسؤولية تدعيم المؤسسة العسكرية بما يمنع مشاريع تفكيكها تحت أي مسمى أو ظرف ,و كذا الرغبة في بناء الاقتصاد الوطني المستقل الذي يقطع مع النماذج النيوليبيرالية الكمبرادورية و القائم عل السيطرة على الموارد الوطنية و بناء القدرات الاقتصادية الإنتاجية في سياق مشروع تنموي شامل يمنع أي نزوع نحو الاستثمارات غير الإنتاجية أو أي انتقال لأصول الدولة لصالح فئات قد تشكل فئة وكلاء لمصالح أجنبية في سياق خلق منظومات صارمة لمواجهة الفساد بما يخلق قاعدة اجتماعية تشكل حاضنة و رافدا للدولة المقاومة و يبني حاجزا أمام الثغرات إلي يسهل اختراقها ليبراليا أو طائفيا .

هذا الطابع الاقتصادي-الاجتماعي للدولة المقاومة هو الحصانة الحقيقية لبيئة مقاومة عصية على الاختراق.

فالحرب المفروضة على سوريا كدولة مقاومة اليوم تتعدى حدودها الطبيعية إلى كل هذا الفضاء الذي نسميه- متجاوزين الصفة الكولونيالية التي تطلق عليه "الشرق الأوسط" ذات الحمولة الفكرية المتصلة بفكر المحافظين الجدد –بالمشرق و المتنوع اثنيا وثقافيا بشعوبه العربية و الكردية و الفارسية والممتاز بإرثه الحضاري القديم الاشوري و الكلداني و السرياني ....الخ و بإرثه الإنساني الذي يمتد تأثيره إلى كل أنحاء العالم , الحرب في سوريا للتي تمثل محور هذا المشرق ضد هذا النهج التكفيري ألتدميري هي حرب ضد مشروع يستهدف تحويل فسيفساء هذا المشرق المذهبية و الدينية إلى عامل تفكيك و صراعات أهلية ,كما هي حرب ضد الهيمنة الأمريكية على مقدرات شعوبه و من اجل تكريس الاستقلال الوطني و حرب ضد المشروع الاستعماري و كيانه الوظيفي "إسرائيل" بما تمثله من عقيدة عنصرية تتقاطع و تتحالف ضمنيا مع مشاريع التفكيك و التفتيت الليبرالية و الطائفية التكفيرية.

دولة المقاومة في سوريا كمركز تتصل بجميع صراعات هذا المشرق تخوض اليوم حرب من اجل مشرق جديد تعددي مستقل خال من الصهيونية و التكفير .

صمودها و انتصاراها في هذه الحرب إضافة إلى إسهامها الحاسم في انكشاف المشروع الإمبراطوري الأمريكي استراتيجيا بما يعجل من انكفائه تدريجيا فرض عليها تحديا كبيرا في طرح البديل لمليء هذا الفراغ الاستراتيجي ,بلوره الرئيس بشار الأسد في نظرية "تشبيك البحار الخمسة" التي مثلت أقسا تعبيرات التحدي للمشروع الأمريكي لهذه المنطقة القائم على التفتيت 

و التقسيم وفق أسس مذهبية و دينية و اثنيه معتمدا على أدواته التكفيرية و اللبرالية و الصهيونية و الذي يستمد رؤيته من رؤية برنارد لويس الذي لا يرى في هذه المنطقة إلا مجموعات طائفية مختلفة قابلة للتصارع و التقاتل ,و تعبر هذه النظرية عن الإطار العام للتعاون بين شعوب هذا المشرق لما فيه مصلحتهم و نهضتهم و تشبيك مصائرهم بدل اشتباكها .

عبد الله بن عمارة - كاتب جزائري / موقع بنت جبيل 

Script executed in 0.18473410606384