في تموز وآب 2013، تنبض بنت جبيل بالحياة والعمران وتغدو قبلة الجنوبيين اجتماعياً وصحياً وتجارياًً. لكن الغائب الأكبر، ليس من سبع سنوات وحتى اليوم، إنما منذ زمن بعيد، عمره من الاحتلال الطويل والتحرير من بعده، هو الدولة اللبنانية. وبرغم ذلك، تبدو بنت جبيل، اليوم، المدينة الأكثر هدوءاً وأمنا وتألقاً في زمن يعمّ فيه الفلتان الأمني معظم نواحي لبنان.
في بنت جبيل، يحضر الوطن. الشهداء. تشبث الناس بأرضهم وتعلقهم بمقاومتهم. وإذا كان دبيب الحياة يتميز في الوسط التجاري أكثر منه في الأحياء المتفرعة، فإن الحقول التي كانت بالأمس (أيام الحرب) ساحات معارك خاض فيها المقاومون أشرس المعارك في وجه أعتى قوة وصدوها ومنعوها من احتلال المدينة؛ عادت لتثمر خضرة وبساتين، تساعد الناس على تحسين مردودهم وإعالة أسرهم؛ لكن تبقى الشكوى مستمرة من النقص الحاد في المياه والانقطاع شبه الدائم للكهرباء، ما يحمل الناس أعباء إضافية. «من يأتِ اليوم إلى بنت جبيل لا بل إلى كل الجنوب، يرَ أن آثار حرب تموز قد انتهت، بكل ما للكلمة من معنى، وهذه مسألة في غاية الأهمية، ذلك أن بعض مناطق لبنان لا تزال تعاني ندوب التهجير والحرب الأهلية، بينما عاد الجنوب وصار أبهى مما كان»، يقول أحد رؤساء البلديات في قضاء بنت جبيل، ويضيف «حتى على الصعيد العمراني، عادت بنت جبيل وباقي القرى أجمل مما كانت لولا أنها فقدت حيزاً من رونقها التراثي مثل بنت جبيل القديمة وقلب بعض القرى مثل عيناثا وعيتا الشعب».
لم يمر على أهل بنت جبيل ما مرّ عليهم في حرب 2006، «اختزل الإسرائيلي أهدافه فلم يعد همه لا وقف الصواريخ ولا تدمير المقاومة وبيئتها الحاضنة، بقدر ما صار همه أن يرفع علمه في قلب بنت جبيل نكاية بالمقاومة وسيدها الذي جعل المدينة عاصمة للتحرير» يقول «أبو أحمد» الذي كان يتسوق كعادته كل خميس في سوق بنت جبيل. ويضيف: «لو أنّ الناس لم يعودوا، في 14 آب، يوم وقف إطلاق النار صباحاً، لكانت بنت جبيل، اليوم، مثل القنيطرة في الجولان».
بنت جبيل شهدت منذ 7 سنوات أشرس المعارك لكنها اليوم لا تحمل أي أثر للحرب (كامل جابر) |
كان الوسط التجاري لمدينة بنت جبيل يعتمد قبل عدوان 2006 على حركة تجارية يعتاش منها تجار المدينة من خلال دكاكين محدودة، إلى بعض المؤسسات التجارية الصغيرة؛ لكن خلال سبع سنوات تعاقبت بعد العدوان، وبعد بناء ما تهدم أو ترميمه، وإقامة أسواق ملحقة بمساعدات من هنا وهناك، شهدت المدينة تحولاً على المستوى التجاري، إذ انتشرت فيها مؤسسات تجارية جديدة، لم تعد تقتصر على أبناء «الوسط» فحسب، بل فتحت مجال الاستثمار أمام تجار الجوار؛ وصار يمكن إحصاء أكثر من 280 متجراً ومؤسسة، فضلاً عن حوالي 120 «بسطة» يعرضها تجار من مختلف المناطق الجنوبية في «سوق الخميس». «يتراوح استثمار المحل التجاري في السوق الذي دمر كلياً في 2006، ثم أعيد بناؤه، (تتملك بلدية بنت جبيل عدداً كبيراً من المتاجر) ما بين 200 و400 دولار، بحسب الموقع والمساحة. لم تعد حركة الاستثمار التجارية حكراً على أبناء المدينة فقط، بل أتاحت البلدية ونقابة التجار الاستثمار لكل من يرغب من أبناء المنطقة والجوار» يقول أحمد السيد خليل (عضو مجلس بلدي وصاحب مؤسسة تجارية)، معتبرا أن الحركة التجارية «كانت جيدة هذا الصيف وتتميز عن السنوات التي قبلها، بأنها كانت مقصداً لأبناء البلدة والمنطقة المنتشرين في العاصمة وغيرها من المناطق اللبنانية، وليس من المغتربين الذين كانوا يبثون الحياة في السوق خلال موسم الصيف ولو أنهم تأخروا بالحضور هذه السنة». يعمل مستشفيان رئيسيان في بنت جبيل («الحكومي» و«صلاح غندور»)، إلى ثالث قريب في تبنين (الحكومي) يبعد نحو خمسة كيلومترات. وقد استطاعت هذه المستشفيات تأمين عناية طبية إسعافية وتمريضية وبعض العمليات الجراحية «الوسطية»، إلى قسم غسيل الكلى الحديث الولادة.
استطاعت هذه المستشفيات مجتمعة أيضا أن تؤمن فرص عمل لأطباء بنت جبيل وتبنين والقضاء، يضاف إليها كوادر طبية أتت من محافظة النبطية؛ بسقف مالي محدود (نحو مليارين لمستشفى بنت جبيل الحكومي ومليار و200 مليون لمستشفى غندور ومليارين لمستشفى تبنين) يكاد يستطيع أن يؤمن الطبابة والجراحة ورواتب الأطباء والإداريين والموظفين، لكنه لن يساهم في تطوير المستشفيات وفتح أقسام جديدة جراحية وعناية فائقة وحديثي الولادة والعلاج السرطاني.
أما قسم غسل الكلى الذي تم افتتاحه منذ ثمانية أشهر على نفقة الدكتور فادي بيضون باسم «قسم الحاج عبد الحميد بيضون لغسيل الكلى»، ويضم 4 أجهزة غسيل كلى، فيستقطب اليوم 28 مريضاً من بنت جبيل والقضاء، «وقد أزاح ثقلاً عن كاهل المرضى الذين كانوا يضطرون إلى الذهاب إما إلى صور أو النبطية لتلقي العلاج هناك. حتى أن مرضى الكلى ممن كانوا يقطنون خارج المنطقة، عادوا في ظل توافر العلاج لهم هنا. وهذا الأمر، إلى ما تقدمه المستشفيات من طبابة وعلاج، بات يشكل عاملاً أساسياً على المستوى الاجتماعي والصحي، لتمسك أبناء المنطقة ببيوتهم» يقول أحد أطباء المستشفى الحكومي في بنت جبيل.
وإذ يتمنى الطبيب نفسه على وزارة الصحة العامة دعم مستشفيات المنطقة بتعزيز أقسامها الجراحية وعمليات القلب، يلفت النظر إلى «خلل في الإدارة الطبية في المستشفى الحكومي، لجهة إدارة ملفات المرضى ومراقبتها التي تتسبب ببعض الفوضى؛ وهنا يمكن لوزير الصحة العامة علي حسن خليل، وهو ابن المنطقة الجنوبية الحدودية التدخل لتعيين مراقبين إداريين في ظل ما وضعه مجلس الخدمة المدنية من شروط تعجيزية في عملية تعيين من يفترض بهم إدارة هذا الأمر».