أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

تلاميذ الجنوب متفوّقون «حتى عندما كان أحمد يعلّم لهم كــامل»... المؤرخ ابراهيم بيضون : هناك تربّص دائم بهذه المنطقة وحملات يومية غير منطقية

الثلاثاء 03 أيلول , 2013 05:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,420 زائر

تلاميذ الجنوب متفوّقون «حتى عندما كان أحمد يعلّم لهم كــامل»... المؤرخ ابراهيم بيضون : هناك  تربّص دائم بهذه المنطقة وحملات يومية غير منطقية

 لكن المشكلة أن السؤال في لبنان لا ينطلق من هذه الرغبة، بدليل عدم إيلاء الجهد للبحث عن السبب الحقيقي، بل يجري الركون إلى اجابات نمطية يتناقلها اللبنانيون بعضهم عن البعض الآخر في التقرير التلفزيوني الشهير الذي أعدّته محطة «أم تي في» كانت الإجابة جاهزة عن سبب تفوّق طلاب الجنوب في الامتحانات الرسمية الاخيرة: هناك غش وتزوير وما من مراقبة. أكثر من ذلك، «إنهم الشيعة» الذين يغشون «لأنهم يرغبون في الحصول على الشهادات بالكمّ» قال أحد ضيوف التقرير وسُمح لهذا الكلام بالمرور. وكأن الغش حالة منتشرة في الجنوب والنبطية دون سواها، أو كأن الغش سبب وحيد قادر على رفع نسبة النجاح إلى هذا الحد. اقتنع المراسل الذي أعدّ التقرير بما توصّل إليه من نتائج علمية دقيقة، وأقنع إدارة الأخبار في المحطة، وخرجوا علينا بتقرير عن الشيعة الغشاشين من أبناء الجنوب.

لكن ماذا يعرف هؤلاء عن علاقة أبناء الجنوب بالعلم؟ هل حاولوا أن يفسّروا سرّ إقبالهم على «جمع الشهادات»؟ ماذا يعرفون عن سعي أبناء تلك المنطقة المتواصل للتقدّم بالعلم؟ قد لا تقدّم هذه المعرفة إجابة عن السؤال الأساسي عن نسب النجاح، لكنها بالتأكيد تضيء على جانب من شخصية الجنوبيين الذين قاوموا ليتعلّموا، كما قاوموا ليحرّروا أرضهم.

يعود الأمين العام لـ«المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» حبيب صادق، إلى ستينيات القرن الماضي ليحكي عن شغف ذلك الجيل بالعلم، على الرغم من ظروف الحياة الصعبة التي كان يعيشها. ثم يعود أبعد في الذاكرة «حتى في أيامنا نحن لم يكن هناك مدرسة تكميلية. المدرسة التكميلية الاولى التي أنشئت في الجنوب في أواسط الاربعينات كانت في النبطية، وكانت السبيل الوحيد أمامنا لمتابعة دراستنا التكميلية ثم الثانوية». على الرغم من ذلك، كان أبناء المنطقة العاملون في الزراعة لا يبخلون على أولادهم «فكانوا يرسلونهم الى النبطية ثم الى صيدا وبيروت ليتعلموا». وهناك الكثير من الروايات عن فتى يقرأ فجراً على ظهر البغل وهو ذاهب الى حقل التبغ، وعن آخرين يبيتون دون طعام بعيدا عن قراهم.

محمد سليمان، أبو سامر، كان أول من نال شهادة «البروفيه» في بلدة حولا سنة 1955. يقول: «كان همّ رجال الاقطاع من آل الأسعد إبقاء الناس جاهلين، كي يستمروا في حمل العصي والحَوربة (التهليل) لهم». وشاع في ذلك الزمن قول أحمد الأسعد لمن طلبوا منه بناء مدرسة: «لماذا؟ ما عم علملكم كامل». يتذكر أبو سامر كيف كان الأهالي يستأجرون غرفة ليعلموا فيها أولادهم، لأنهم كانوا يرون في العلم سبيلا للتقدم وللتخلص من مشاق العمل المضني في الحقول. يروي: «بين عامي 1949 و1950 أقمت مع صديق لي في النبطية. كنت أبلغ من العمر عشر سنوات وهو أحد عشر سنة، فكنا نعد الطعام بأنفسنا، وفي إحدى المرات استمرّ تساقط الثلج لمدة 15 يوماً فانقطعنا من الطعام».

هذا الشغف بالعلم، أو الفرادة الجنوبية كما يسمّيها المؤرخ ابراهيم بيضون، عمره قرون عديدة. يعود بنا بيضون الى القرن الرابع عشر ليطلعنا على بعض من رواد النهضة في جبل عامل، يخبرنا قصص علماء الدين الذين كانوا يرتحلون الى النجف في العراق وإلى إيران «فيؤثرون ويتأثرون، وكان بعضهم يعود إلى جبل عامل ليؤسس مدارس للتعليم الفقهي وتعليم اللغة والادب والشعر والحساب وغيرها من المواد العلمية». والنهضة في جبل عامل كما يطلعنا بيضون «هي سابقة لعدة قرون النهضة الحديثة التي انطلقت في مصر، لكن شهرة النهضة المصرية تعود الى تزامنها مع ظهور الصحف وصعود الاعلام، بينما جرى التعتيم على نهضة جبل عامل، ولم نتعرف عليها الا من خلال المصنّفات التي تركها الفقهاء». ومن أبرز علماء ذاك العصر الشيخ محمد مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول، اضافة الى كوكبة من العلماء والفقهاء ورجال الدين، الذين كانوا يتوارثون العلم على مر الزمن، ونذكر منهم الشيخ محمد حسن الحر العاملي، الشيخ البهائي محمد بن حسين بن عبد الصمد، الشيخ أحمد عارف الزين، السيد محسن الأمين، السيد عبد الحسين شرف الدين وغيرهم كثيرون. ويذكّر بيضون بقول لسعيد عسيلي «لو دَخل داخِلٌ الى جبل عامل وتحرى عنه لوجد تحت كل حجر شاعراً، وفي ظل كل زيتونة أديباً».

يتعدى الشغف العاملي بالعلم الظاهرة الفردية ليصبح عادات مجتمع وأسلوب حياة، له جذوره التاريخية المتناقلة لا شك، لكنه أيضاً رد فعل على واقع اجتماعي من جهة، وقيمة اجتماعية من جهة ثانية. وهذا ما يشرحه أستاذ العلوم الاجتماعية طلال العتريسي حين يقول «إن المناخ العام في الجنوب يتلخص بالحرص على التعليم، الأمر الذي يمكن وصفه بأنه سلاح كانوا يفتقدونه». ويرى عتريسي أن مقولة «الحرمان يولد الحرمان، والامية تولد الامية، معكوسة في الجنوب، الحرمان ولّد اندفاعاً نحو التعليم».

اندفع الجنوبيون نحو التعلّم، ونحو التفوّق أيضاً. وفي هذا الإطار يبرز اسم كلّ من حسن كامل الصباح، ورمال رمال، العالمين اللذين كُرّما خارجاً اكثر مما كرّما في بلدهما الام لبنان. ما يدفع بيضون إلى السؤال: «لماذا نستكثر على الجنوبيين أن يكونوا متفوقين في مجال، مع أن الوسائل العلمية لم تتح لهم إلا بعد الآخرين».

بالفعل، تفوق الجنوبيون في زمن كانت فيه قراهم تخلو من المدارس. فكيف بهم اليوم وقد أصبح بمقدور الجميع الذهاب الى المدرسة، وباتت البيئة التي يوفرها الأهل هي التي تنمي الحافز والرغبة لدى الابناء ليقبلوا على العلم، وخصوصاً بعدما أدرك الجنوبيون أن «التعليم شرط للترقي الاجتماعي» حسب العتريسي، الذي يضيف «هي بيئة علماء وأدباء وشعراء وندوات أسبوعية لا تزال فاعلة حتى اليوم».

يبقى أن نسأل لماذا يحاول البعض أن يلبس هذه المنطقة لبوسا آخر لا يليق بها؟ يجيب بيضون «ربما كان هناك، كما يطلع علينا الاعلام يومياً، تربّص دائم بهذه المنطقة، التي دافعت عن نفسها وعن كرامتها ضد العدو الاسرائيلي. هناك حملات يومية وغير منطقية ضد الجنوب، وربما هذا التفوق ضاق به البعض، والله اعلم، كما يقول المؤرخ الطبري».


Script executed in 0.20354890823364