ايمن عقيل - سلاب نيوز
في العام 1918، عاد ميشال أنطوان شيحا من القاهرة إلى بيروت حيث أدار مصرفا إسمه " بنك شيحا وفرعون " . وفي وقت فراغه ربما إجتاحته نوستالجيا ما، فركّب لنا وطنا. لطالما أردت أن أحضر تلك اللحظة التي قرر فيها وآخرون أن مدن وبلدات يجب أن تُضاف إلى ولاية جبل لبنان لأنها قادرة، على ما يذكر المؤرخين، على تزويد هذا الجبل بحاجته من البطاطا مثلا. انا الآتي من إحدى هذه الدساكر، أحفظ النشيد الوطني اللبناني عن ظهر قلب لكنني لم أستطع أن أتوقف عن الإبتسام أمام هذه الواقعة التاريخية، قد تكون البطاطا هي السبب مثلا في كوني لبناني. ليس أنني لا أحب البطاطا، فقط كنت آمل بصدق ان يكون هناك سببا أقل سخافة منها لأخبره لأولادي لاحقا.
أثمرت إذا الأربعة أشهر التي قضاها البطريرك الحويك في باريس ذلك الصيف المجيد، تقاطعت مع رغبات المصرفي الجغرافية وكان لهما ما أرادا، وطن بُني على خريطة رُهاب طفولي لأقليات الشرق، ذكريات دموية لمجازر عام 1860، وبطاطا. ليس مهما كيف بدأت دولة لبنان الكبير عام 1920، الأكثر أهمية هو السيرورة التي آل إليها تاريخها الذي دُشّن ببراءة آنذاك.
من المؤلم أن نتوقف أيضا مع محطة تاريخية مفصلية أخرى عاشها لبنان إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، لأننا سنقع على مساحات من الظلال لم يُلقى عليها الضوء كما يجب. فبحسب الأدبيات الأمريكية في سرد لحظات التدشين الأولى للأمة الأمريكية، يُعتبر بشارة الخوري من الآباء المؤسسين للبنان. هو بشارة الخوري نفسه الذي أُجبر على تقديم إستقالته عام 1952 بعد إتهامات له ولأخيه سليم الخوري بالفساد. حسنا، يبدو أن رب البيت اللبناني "ضرّيب" طبل منذ البداية.
كانت هذه إذا مآثر البدايات فكيف لنا أن نتوقع غير ما إنتهينا إليه من واقع الحال. فبإستثناء بقعة ضوء مُرقطة في العهد الشهابي، كان هذا البلد أمينا للوثة البداية، ومُمعنا في خلق فرانكشتاين سياسي كلّما تقاطعت العُقد الطائفية المزمنة مع رغبة دولية بتصفير شوط جديد في مونديال عسكري أو أمني لتنفيس إحتقان ما في إحدى جهات العالم الأربعة. هكذا كانت الحرب الأهلية اللبنانية وهكذا وضعت أوزارها. هكذا أُغتيل الرئيس رفيق الحريري عام 2005 أيضا. هذا الإغتيال الذي ولّد سيولة فائقة في قواعد النظام اللبناني، صفّر إنطلاقة معركة إعادة تشكيل النظام السائل لمصلحة من إغتال ومن كان واثقا من قدرته على كسب الرهان. و نحن الآن في قلب المعركة، ببساطة. من صفّر البداية لن يملك فرض "الخاتمة" لهذا الفصل من التاريخ اللبناني. حسنا، لماذا؟
ببساطة أيضا، لأن شيئا ما تغيّر في أيار من العام 2000. ليس أن مقاومة شعبية محدودة القدرات إستردت شريطا من الأراضي بعمق عشرات من الكيلومترات فحسب، الذي حصل أن النظام الدولي برمته إختل لأن نموذجا فائق النصاعة جرى تقديمه كبديل عن نظريات الإنبطاح المُغلّف بالإعتدال. كانت فلسطين وجهته الثانية وهذا ما كان، إرهاصاته هناك بالتأكيد. ولأن حدث التحرير خلق تحقيبا تاريخيا خاصا به فإن لنا أن نقول أن ما قبله ليس كما بعده، فمنذ تلك اللحظة باتت كل قراءة لما حدث وما يحدث في الشرق الأوسط لا تبدأ حبكتها من الجنوب اللبناني هي على أقل تقدير قراءة قلقة.
سأغفر لميشال شيحا خطأه الجغرافي وولعه بالبطاطا لأن في هذا البلد ما يصلح أن يكون وطن، يلزمنا من يغامر قليلا ولا يرضى بعصفور هجين في يده لأن شجر لبنان، أرزه، يعدُ بالكثير.