التين من أقدم الأشجار التي عرفها الإنسان عبر تاريخ البشرية. وقد تميز التين العاملي (جبل عامل) بنكهة خاصة جعلت له شهرة واسعة في الداخل والخارج، وخاصة في جمهورية مصر العربية، عندما ازدهرت تجارة التين مع مصر لعقود طويلة من الزمن حيث كان يصدر إليها التين المجفف (الشريحة) وبالأخص تين التل المشهور بنكهته وطعمه اللذيذ.
كانت زراعة شجرة التين تغطي مساحات كبيرة من قرى الجنوب، ومعظم القرى اللبنانية، وتساهم في دعم الاقتصاد الريفي، إن لناحية الاعتماد عليها كغذاء ودواء أساسي، او لناحية تجفيف ثمارها والاتجار بها داخل لبنان وخارجه. وقد تعرضت زراعة شجر التين إلى الضمور مرتين أساسيتين، المرة الأولى بعد انتشار زراعة التبغ، والمرة الثانية بعد انتشار »الروح المدنية«، حيث باتت زراعته وصناعته في طريق الزوال.
فما قصة زراعة شجر التين في جبل عامل؟ وما المشاكل التي واجهتها؟ وهل يمكن لحملات التشجير الجديدة والحديثة، التي تقوم بها وزارتا الزراعة والبيئة، والمنظمات الأهلية والإدارات المحلية والمؤسسات الدولية المانحة... أن تعيد إحياء زراعته بدل او مع زراعة الأشجار غير المثمرة؟
الموطن والتاريخ
تجمع الكثير من الدراسات على ان موطن التين الأصلي هو بلاد فارس وآسيا وسوريا ولبنان. وقد اثبتت بعض المراجع التاريخية، ان الفينيقيين كانوا يتزودون به في رحلاتهم البحرية والبرية. وفي دراسة أخرى تبين أن موطنه الأصلي كان في شبه الجزيرة العربية، ثم انتقل إلى بلدان آسيا الصغرى في الأناضول وتركيا وأفغانستان... ومن ثم انتقل إلى اوروبا عن طريق الفينيقيين والإغريق. ومن ثم انتقل إلى الشرق عن طريق سوريا حتى وصل إلى الهند.
ظهر التين في الرسومات والنقوش والمنحوتات، وقد شكل طعاماً رئيسياً عند الإغريق. كما استعمله الإسبارطيون في موائد طعامهم الرئيسية. وقد اعتمد عليه الرياضيون بشكل خاص في غذائهم بشكل رئيسي لاعتقادهم بأنه يزيد من قوتهم، وقد سنت الدولة الإغريقية في ذلك الوقت قانوناً يمنع تصدير الفاكهة ذات الصنف الممتاز من بلادهم إلى البلاد الأخرى.
وجد التين المجفف في Pompeii (بلدة اغريقية)في محلات التنقيب التي أجريت على البلدة التي كانت مطمورة بالرمال. وظهر التين في الرسوم الجدرانية التي ضمت التين إلى جانب مجموعات أخرى من الفاكهة. ويذكر بأن التين المزروع في حدائق المنازل كان يستعمل لإطعام العبيد ليمدهم بالطاقة.
خصائص التكوين
المركّب الرئيسي الموجود في التين هو الديكستروز Dextrose وهو يشكل ما يقارب ٥٠ ٪ من تركيبته. كما يحتوي على فيتامين A،B،C وعلى نسب عالية من أملاح الحديد والكالسيوم والبوتاسيوم والنحاس.
ويعطي التين سعرات حرارية عالية، بمعدل ٧٠ سعرة لكل ١٠٠ غرام اخضر و٢٧٠ سعرة لنفس الوزن من التين المجفف.
الفوائد المعروفة
يعتبر التين من أكثر الفواكه والخضروات التي تحتوي على نسبة عالية من الألياف. ويوجد في التين نوعان من الألياف: ألياف قابلة للتحلل والذوبان والألياف غير القابلة للتحلل والذوبان. وقد أظهرت الدراسات خلال أكثر من ٥٠ سنة مضت أن الألياف الموجودة في الأغذية النباتية تؤدي دوراً فعالاً في تنشيط أداء الجهاز الهضمي ولها دور هام في أداء وظيفته الطبيعية، وتساهم أيضاً في التقليل من خطورة الإصابة ببعض أنواع السرطان. كما أن الغذاء ذي الألياف غير القابلة للذوبان يملك أثراً وقائياً ضد سرطان القولون. من جهة أخرى، ثبت أن الغذاء ذي الألياف القابلة للذوبان يقلل من مستوى الكولسترول في الدم بنسبة أكثر من ٢٠ ٪.
وفي دراسة أخرى للدكتور أوليفر الباستر، مسؤول جمعية الوقاية من الأمراض في المركز الطبي التابع لجامعة جورج واشنطن، تبين في التين المجفف، الذي يعد من أكثر الفواكه الغنية بالألياف، مستوى عال من مركّب الـ phenol (الفينول) الذي يستخدم كمطهر لقتل البكتيريا والجراثيم.
وأظهرت دراسة أخرى أجرتها جامعة رتجرز في نيوجرسي، أن التين المجفف يحتوي على المركبين ٦ omega و٣ omega وهما يلعبان دوراً كبيراً في التقليل من الكوليستيرول. وهذان المركّبان لا يمكن للجسم إنتاجهما، لكن يمكن امتصاصهما مع الغذاء. كما أن نسبة الكالسيوم الموجود في التين عالية جداً، حيث يحتل التين المرتبة الثانية بعد البرتقال باحتوائه على الكالسيوم.
»التتين«
»التتين« هو ضمان موسم التين من أصحاب الكروم لعائلات بلدة النبطية ومنطقتها (التيانة)، حيث كانوا يقضون فصل الصيف مع عائلاتهم في عرزال أو خيمة يشيدونها بالكرم المستأجر، وكان تل دبين (مرجعيون) هو المكان الأفضل لتيانة النبطية نظراً لجودة هذا التين ونكهته الخاصة وشهرته الواسعة في الداخل والخاراج، حيث كان يصدر بالداخل إلى المناطق اللبنانية وخاصة الشمال (طرابلس) وإلى الخارج إلى جمهورية مصر العربية، حيث كان للتين العاملي المجفف (الشريحة) سمعة وشهرة جعلت الطلب عليه كبيراً، إذ كان التجار المصريون يتنافسون على تأمين طلباتهم من التين العاملي، وخاصة تين التل، وذلك بإعطاء سلف للتجار الوسطاء لتأمين هذا المنتج في الوقت المناسب.
وكانت منطقة »التل«، عبارة عن كروم تين كانت تؤجر للتيانة لموسم الصيف، وهي منطقة في منحدر تمتد من بلدتي مرجعيون دبين باتجاه سهل الخيام. كما كانت تعرف باسم تل دبين أو تل مرجعيون وتسمى التلة المزروعة تيناً (قرص التل).
ولسبر غور هذه الفترة من الزمن كان لا بد من فتح نافذة على هذا الماضي القريب. فالتقينا مع بعض من عاش أو أدرك تلك الحقبة الماضية.
يروي علي حمادي ان »التتين« أو صناعة وتجفيف التين في موسم الصيف، كانت تعتبر مردوداً مهماً جداً لبعض العائلات التي تنتظر الموسم وتقصد من بلد إلى آخر لضمان التين. فبعض عائلات النبطية كانت تضمن (تستأجر) بساتين التين في منطقة مرجعيون دبين الخيام أو القليعة. وأذكر أن التجار الناشطين العاملين بتجارة التين المجفف الذي كان يجمع في هذه التلال الخيرة، منهم الحاج حسين حجازي، الحاج رشيد الحاج علي، الحاج محمود صباح اللبعاوي.
أما التاجر الأول والمصدر فهو إبراهيم الحاج خليل (إبراهيم علي أحمد).
التصنيع والتوضيب
أما عملية التصنيع والتوضيب فكانت تتم كالتالي: بعد قطف الثمر الناضج نضوجاً تاماً تفتح الثمرة لتصبح بشكل زهرة، ثم تفرش على نبات بري يسمى الفاقوع، سيقانه طويلة وأرواقه صغيرة وقليلة مما يجعل المجاري الهوائية تمر بين التين لتجفيفه بسهولة. وهذا النبات موجود بكثرة في البرية لمدة شهرين تقريباً. وإذا تم التجفيف على غير نبات الفاقوع يتعرض التين للعفن لعدم نشاف الماء بشكل تام.
وبعد الانتهاء من عملية التجفيف يوضع التين في أوعية تدعى القفة مصنوعة من سعف النخيل، وهذه الأوعية إما من صنع محلي أو من صنع مصر. وكان وزن القفة يتراوح بعد تعبئتها ما بين الـ ٤٠ و الـ ٧٠ كلغ علماً أن الوزن المعروف في ذلك الوقت هو الرطل (٢٥٧٥ غراماً ).
هذا مع العلم أن التين اليابس (الشريحة) يصنع فقط من التين الأبيض المسمى عسلاني نسبة إلى كلمة عسل، لأنه بلون العسل.
أما تجارة التين فكانت تمر عبر ثلاث قنوات:
أولاً: في الكروم نفسها حيث كانت تتم عملية تبديل التين بأنواع أخرى من المنتجات كالحبوب أو البيض أو الجوز أو الماشية، حيث كان المزارعون يأتون إلى التل أو إلى الكروم الأخرى المجاورة في الخيام ومنحدر القليعة لتبديل (مقايضة) بضائعهم بتين هذه المناطق.
ثانياً: بيع التين في السوق الداخلي المحلي حيث كان يعتبر التين مؤونة الجنوبي خاصة واللبناني عامة حيث تصنع منه المربيات، منها التين المغلي مع الجوز والسكر، والمربى حب، وإلى الآن ما زالت هذه المربيات تصنع في بعض المناطق اللبنانية الأخرى في منطقة الكورة وحدث الجبة. وكان أيضاً يصدّر إلى المناطق اللبنانية الأخرى وخاصة إلى شمال لبنان حيث كان الطلب على التين العاملي في طرابلس كبيراً نظراً لجودته ونكهته الخاصة.
ثالثاً: التجارة الخارجية وكانت تتم عبر تصدير (التين الشريحة) إلى مصر عبر تجار مصريين كانوا يشترون التين المجفف الشريحة من كبار تجار المنطقة وخاصة إبراهيم الحاج خليل علي أحمد، استمر التصدير إلى مصر حتى بداية الستينيات من القرن الماضي.
زراعة التبغ!
يذكر د. محمد فران (من مواليد ١٩٣٩) انه منذ طفولته كان يذهب مع أهله إلى التتين وذلك بهدف الكسب لتغطية بعض النفقات السنوية. ويعتبر أن كروم التين على وعيه كانت تمتد على جانبي طريق النبطية إلى آخر عقبة الدوير. ثم كان لزراعة التبغ التي بدأت في الأربعينيات ونشطت بعد ذلك، أن دفعت أصحاب كروم التين إلى اقتلاع أشجار التين واستبدالها بزراعة التبغ حيث بدأ التبغ يعطي دخلاً أفضل من زراعة التين.
أما التين في تل دبين، وهي المنطقة التي نسبت إلى التل الذي يقع من تل مرجعيون دبين انتهاءً إلى مرج الخيام فقد كانت العائلات تحضر لموسم التين ابتداءً من شهر أيار حيث يبدأ التيانون بضمان كروم التين في منطقة التل والسفح الشرقي لبلدة القليعة (تين أبو عتبة) ثم يبدأ الإعداد لموسم القطاف ابتداء من منتصف حزيران تقريباً حيث تنشأ الخيم (العرزال) وتعد المساطيح، والمسطاح مساحة دائرية أو مستطيلة حسب وضع الأرض يتم تسييجها بالأشواك حيث تفرش بأنواع من العشب وخاصة الفاقوع والشيح والوزال وسواها وعندما ينضج التين تبدأ عملية القطاف من منتصف شهر تموز تقريباً إلى بداية شهر تشرين الأول.
بعد قطف ثمرة التين الناضجة تفتح إلى أربعة أجزاء ثم تنشر على المسطاح وتبقى عدة أيام تحت أشعة الشمس ثم تقلب وتبقى أيضاً بضعة أيام أخرى حتى تجف، هذا مع العلم أنها لا تغطى في الليل.
ثم بعد ذلك تجمع وتوضع على المستراح، وهو دائرة من الطين وذلك لزيادة الجفاف فيها، ثم بعد الجفاف تجمع وتضغط في قفف من سعف النخيل المستوردة من مصر، ثم تغطى بقماش القنب لتصبح بعد ذلك جاهزة للبيع للتجار الوسطاء.
وكان اهتمام المزارع بأشجار التين فائق النظير، حيث تبقى يده في الشجرة طيلة العام من تنقيب الأرض وقلبها ومعالجة السوس والديدان. لذا كان تين تل دبين يعمر خلافاً للمناطق الأخرى. وكان موسم الرعي الشتوي كفيلاً بتسميد الأرض، لأن في كل بلد يوجد فيها قطعان كبيرة من الماعز والغنم والبقر، ويسمونها »العجّال«، يرافقها راع من الصباح إلى المساء.
ويعتبر التين الأبيض العسلاني الأهم للتجارة، وهو أساس الكروم. ثم تأتي بقية الأنواع كالصيداني والسوّادي والبقراتي والبياضي للضيافة والأكل ولصنع »الدحروب«. والدحروب كان يستخدمه التيانون في عملية مقايضة (ابدال) يومية مع القرويين الذين يأتون على دوابهم. وكان الواحد منهم يحمل عنباً وجوزاً أو بندورة، وما يتبقى من الدحروب يبقى للمونة حلوى أو فاكهة الشتاء عند التيانين.
مستقبل زراعة التين:
ويقدر الحاج ابو عدنان سلامة سويد (من كبار المزارعين في منطقة مرجعيوم دبين) عمر بساتين التل بما بين ١٠٠ إلى ١٢٥ سنة. الا انه يرى أن زراعة التين في الوقت الحاضر لا تبشر بالخير. فلقد أدى الإهمال إلى اليباس. وقد بدأ اليباس منذ ستينيات القرن الماضي، ولم يبق في التل بالوقت الحاضر إلا حوالى ٥٠ شجرة. واستبدل قسم من أراضي التل بزراعة الزيتون وترك القسم الآخر (بدون زراعة).
صناعة في طريق الزوال
ويجمع المعمرون في المنطقة بأن زراعة التين لن تعود إلى سابق انتشارها وإزدهارها في منطقة التل والخيام والقليعة بالرغم من وجود بقايا لهذه الكروم المنسية والتي كانت منتشرة في تلك المناطق، إلا أن زراعة التين لا زالت منتشرة في منطقة العرقوب (الهبارية، الميرية...) وغيرها من بلدات المنطقة، وتباع منتجات الكروم وخاصة التين العسلاني الناضج في منطقة النبطية إبتداءً من شهر أيلول وامتداداً إلى تشرين الأول حيث يتأخر نضوج ثمرة التين في هذه المنطقة بخلاف تين التل وجواره والذي كان نضوجه إبتداء من منتصف شهر تموز.
ويبدو أن من الأسباب التي أدت إلى يباس كروم التين وعدم الاهتمام بتجديد زراعة الكروم بالإضافة إلى وقف التصدير إلى مصر هو ضعف الطلب على التين الشريحة من قبل العائلات الجنوبية خصوصا وبقية المناطق عموماً، حيث كان يستعمل في صناعة التين المغلي مع الجوز واللوز وهو كان بمثابة حلوى الشتاء. والحنين إلى هذه الشجرة الخيّرة مرتبط بوجدان وتراث أهالي جبل عامل إذ لا يخلو بستان أو حديقة منزل ولو من شجرة تين واحدة أو أكثر، وذلك لأكل ثمارها الناضجة واللذيذة وهذا طبعاً لا يعيد مجد هذه الشجرة المباركة إلى سابق عهدها.
أبو فارس يجدد
ومع هذا تلوح بالأفق بارقة أمل في إعادة زراعة كروم التين، ولكن ليس في منطقة التل وجوارها وإنما في منطقة الريحان، حيث قام أبو فارس (ابراهيم أبو ملحم ) وهو من المزارعين الناشطين والعاملين في مجال البيئة على تشجيع المزارعين اصحاب الكروم في منطقة الريحان على إعادة زراعة الكروم اليابسة التي ورثوها عن آبائهم بأشجار جديدة. ويبدو أن حملة أبو فارس قد أعطت ثمارها، إذا تم إلى الآن إعادة غرس حوالى ١٠٠٠ نصبة من أشجار التين.
وأخيراً فحبذا لو أن الجمعيات البيئية ووزارة الزراعة وكل من يهتم بتنشيط المجال الاقتصادي يشجع العائلات اللبنانية على إعادة صنع التين المغلي (المصنع من الشريحة) في المنازل لما لهذه الحلوى من فائدة غذائية غنية بالمعادن والبروتينات، بالإضافة إلى جهد خاص لإعادة تصدير الشريحة إلى مصر وغيرها من الدول وذلك بهدف إعادة إنتشار زراعة هذه الشجرة المباركة.
كانت زراعة شجرة التين تغطي مساحات كبيرة من قرى الجنوب، ومعظم القرى اللبنانية، وتساهم في دعم الاقتصاد الريفي، إن لناحية الاعتماد عليها كغذاء ودواء أساسي، او لناحية تجفيف ثمارها والاتجار بها داخل لبنان وخارجه. وقد تعرضت زراعة شجر التين إلى الضمور مرتين أساسيتين، المرة الأولى بعد انتشار زراعة التبغ، والمرة الثانية بعد انتشار »الروح المدنية«، حيث باتت زراعته وصناعته في طريق الزوال.
فما قصة زراعة شجر التين في جبل عامل؟ وما المشاكل التي واجهتها؟ وهل يمكن لحملات التشجير الجديدة والحديثة، التي تقوم بها وزارتا الزراعة والبيئة، والمنظمات الأهلية والإدارات المحلية والمؤسسات الدولية المانحة... أن تعيد إحياء زراعته بدل او مع زراعة الأشجار غير المثمرة؟
الموطن والتاريخ
تجمع الكثير من الدراسات على ان موطن التين الأصلي هو بلاد فارس وآسيا وسوريا ولبنان. وقد اثبتت بعض المراجع التاريخية، ان الفينيقيين كانوا يتزودون به في رحلاتهم البحرية والبرية. وفي دراسة أخرى تبين أن موطنه الأصلي كان في شبه الجزيرة العربية، ثم انتقل إلى بلدان آسيا الصغرى في الأناضول وتركيا وأفغانستان... ومن ثم انتقل إلى اوروبا عن طريق الفينيقيين والإغريق. ومن ثم انتقل إلى الشرق عن طريق سوريا حتى وصل إلى الهند.
ظهر التين في الرسومات والنقوش والمنحوتات، وقد شكل طعاماً رئيسياً عند الإغريق. كما استعمله الإسبارطيون في موائد طعامهم الرئيسية. وقد اعتمد عليه الرياضيون بشكل خاص في غذائهم بشكل رئيسي لاعتقادهم بأنه يزيد من قوتهم، وقد سنت الدولة الإغريقية في ذلك الوقت قانوناً يمنع تصدير الفاكهة ذات الصنف الممتاز من بلادهم إلى البلاد الأخرى.
وجد التين المجفف في Pompeii (بلدة اغريقية)في محلات التنقيب التي أجريت على البلدة التي كانت مطمورة بالرمال. وظهر التين في الرسوم الجدرانية التي ضمت التين إلى جانب مجموعات أخرى من الفاكهة. ويذكر بأن التين المزروع في حدائق المنازل كان يستعمل لإطعام العبيد ليمدهم بالطاقة.
خصائص التكوين
المركّب الرئيسي الموجود في التين هو الديكستروز Dextrose وهو يشكل ما يقارب ٥٠ ٪ من تركيبته. كما يحتوي على فيتامين A،B،C وعلى نسب عالية من أملاح الحديد والكالسيوم والبوتاسيوم والنحاس.
ويعطي التين سعرات حرارية عالية، بمعدل ٧٠ سعرة لكل ١٠٠ غرام اخضر و٢٧٠ سعرة لنفس الوزن من التين المجفف.
الفوائد المعروفة
يعتبر التين من أكثر الفواكه والخضروات التي تحتوي على نسبة عالية من الألياف. ويوجد في التين نوعان من الألياف: ألياف قابلة للتحلل والذوبان والألياف غير القابلة للتحلل والذوبان. وقد أظهرت الدراسات خلال أكثر من ٥٠ سنة مضت أن الألياف الموجودة في الأغذية النباتية تؤدي دوراً فعالاً في تنشيط أداء الجهاز الهضمي ولها دور هام في أداء وظيفته الطبيعية، وتساهم أيضاً في التقليل من خطورة الإصابة ببعض أنواع السرطان. كما أن الغذاء ذي الألياف غير القابلة للذوبان يملك أثراً وقائياً ضد سرطان القولون. من جهة أخرى، ثبت أن الغذاء ذي الألياف القابلة للذوبان يقلل من مستوى الكولسترول في الدم بنسبة أكثر من ٢٠ ٪.
وفي دراسة أخرى للدكتور أوليفر الباستر، مسؤول جمعية الوقاية من الأمراض في المركز الطبي التابع لجامعة جورج واشنطن، تبين في التين المجفف، الذي يعد من أكثر الفواكه الغنية بالألياف، مستوى عال من مركّب الـ phenol (الفينول) الذي يستخدم كمطهر لقتل البكتيريا والجراثيم.
وأظهرت دراسة أخرى أجرتها جامعة رتجرز في نيوجرسي، أن التين المجفف يحتوي على المركبين ٦ omega و٣ omega وهما يلعبان دوراً كبيراً في التقليل من الكوليستيرول. وهذان المركّبان لا يمكن للجسم إنتاجهما، لكن يمكن امتصاصهما مع الغذاء. كما أن نسبة الكالسيوم الموجود في التين عالية جداً، حيث يحتل التين المرتبة الثانية بعد البرتقال باحتوائه على الكالسيوم.
»التتين«
»التتين« هو ضمان موسم التين من أصحاب الكروم لعائلات بلدة النبطية ومنطقتها (التيانة)، حيث كانوا يقضون فصل الصيف مع عائلاتهم في عرزال أو خيمة يشيدونها بالكرم المستأجر، وكان تل دبين (مرجعيون) هو المكان الأفضل لتيانة النبطية نظراً لجودة هذا التين ونكهته الخاصة وشهرته الواسعة في الداخل والخاراج، حيث كان يصدر بالداخل إلى المناطق اللبنانية وخاصة الشمال (طرابلس) وإلى الخارج إلى جمهورية مصر العربية، حيث كان للتين العاملي المجفف (الشريحة) سمعة وشهرة جعلت الطلب عليه كبيراً، إذ كان التجار المصريون يتنافسون على تأمين طلباتهم من التين العاملي، وخاصة تين التل، وذلك بإعطاء سلف للتجار الوسطاء لتأمين هذا المنتج في الوقت المناسب.
وكانت منطقة »التل«، عبارة عن كروم تين كانت تؤجر للتيانة لموسم الصيف، وهي منطقة في منحدر تمتد من بلدتي مرجعيون دبين باتجاه سهل الخيام. كما كانت تعرف باسم تل دبين أو تل مرجعيون وتسمى التلة المزروعة تيناً (قرص التل).
ولسبر غور هذه الفترة من الزمن كان لا بد من فتح نافذة على هذا الماضي القريب. فالتقينا مع بعض من عاش أو أدرك تلك الحقبة الماضية.
يروي علي حمادي ان »التتين« أو صناعة وتجفيف التين في موسم الصيف، كانت تعتبر مردوداً مهماً جداً لبعض العائلات التي تنتظر الموسم وتقصد من بلد إلى آخر لضمان التين. فبعض عائلات النبطية كانت تضمن (تستأجر) بساتين التين في منطقة مرجعيون دبين الخيام أو القليعة. وأذكر أن التجار الناشطين العاملين بتجارة التين المجفف الذي كان يجمع في هذه التلال الخيرة، منهم الحاج حسين حجازي، الحاج رشيد الحاج علي، الحاج محمود صباح اللبعاوي.
أما التاجر الأول والمصدر فهو إبراهيم الحاج خليل (إبراهيم علي أحمد).
التصنيع والتوضيب
أما عملية التصنيع والتوضيب فكانت تتم كالتالي: بعد قطف الثمر الناضج نضوجاً تاماً تفتح الثمرة لتصبح بشكل زهرة، ثم تفرش على نبات بري يسمى الفاقوع، سيقانه طويلة وأرواقه صغيرة وقليلة مما يجعل المجاري الهوائية تمر بين التين لتجفيفه بسهولة. وهذا النبات موجود بكثرة في البرية لمدة شهرين تقريباً. وإذا تم التجفيف على غير نبات الفاقوع يتعرض التين للعفن لعدم نشاف الماء بشكل تام.
وبعد الانتهاء من عملية التجفيف يوضع التين في أوعية تدعى القفة مصنوعة من سعف النخيل، وهذه الأوعية إما من صنع محلي أو من صنع مصر. وكان وزن القفة يتراوح بعد تعبئتها ما بين الـ ٤٠ و الـ ٧٠ كلغ علماً أن الوزن المعروف في ذلك الوقت هو الرطل (٢٥٧٥ غراماً ).
هذا مع العلم أن التين اليابس (الشريحة) يصنع فقط من التين الأبيض المسمى عسلاني نسبة إلى كلمة عسل، لأنه بلون العسل.
أما تجارة التين فكانت تمر عبر ثلاث قنوات:
أولاً: في الكروم نفسها حيث كانت تتم عملية تبديل التين بأنواع أخرى من المنتجات كالحبوب أو البيض أو الجوز أو الماشية، حيث كان المزارعون يأتون إلى التل أو إلى الكروم الأخرى المجاورة في الخيام ومنحدر القليعة لتبديل (مقايضة) بضائعهم بتين هذه المناطق.
ثانياً: بيع التين في السوق الداخلي المحلي حيث كان يعتبر التين مؤونة الجنوبي خاصة واللبناني عامة حيث تصنع منه المربيات، منها التين المغلي مع الجوز والسكر، والمربى حب، وإلى الآن ما زالت هذه المربيات تصنع في بعض المناطق اللبنانية الأخرى في منطقة الكورة وحدث الجبة. وكان أيضاً يصدّر إلى المناطق اللبنانية الأخرى وخاصة إلى شمال لبنان حيث كان الطلب على التين العاملي في طرابلس كبيراً نظراً لجودته ونكهته الخاصة.
ثالثاً: التجارة الخارجية وكانت تتم عبر تصدير (التين الشريحة) إلى مصر عبر تجار مصريين كانوا يشترون التين المجفف الشريحة من كبار تجار المنطقة وخاصة إبراهيم الحاج خليل علي أحمد، استمر التصدير إلى مصر حتى بداية الستينيات من القرن الماضي.
زراعة التبغ!
يذكر د. محمد فران (من مواليد ١٩٣٩) انه منذ طفولته كان يذهب مع أهله إلى التتين وذلك بهدف الكسب لتغطية بعض النفقات السنوية. ويعتبر أن كروم التين على وعيه كانت تمتد على جانبي طريق النبطية إلى آخر عقبة الدوير. ثم كان لزراعة التبغ التي بدأت في الأربعينيات ونشطت بعد ذلك، أن دفعت أصحاب كروم التين إلى اقتلاع أشجار التين واستبدالها بزراعة التبغ حيث بدأ التبغ يعطي دخلاً أفضل من زراعة التين.
أما التين في تل دبين، وهي المنطقة التي نسبت إلى التل الذي يقع من تل مرجعيون دبين انتهاءً إلى مرج الخيام فقد كانت العائلات تحضر لموسم التين ابتداءً من شهر أيار حيث يبدأ التيانون بضمان كروم التين في منطقة التل والسفح الشرقي لبلدة القليعة (تين أبو عتبة) ثم يبدأ الإعداد لموسم القطاف ابتداء من منتصف حزيران تقريباً حيث تنشأ الخيم (العرزال) وتعد المساطيح، والمسطاح مساحة دائرية أو مستطيلة حسب وضع الأرض يتم تسييجها بالأشواك حيث تفرش بأنواع من العشب وخاصة الفاقوع والشيح والوزال وسواها وعندما ينضج التين تبدأ عملية القطاف من منتصف شهر تموز تقريباً إلى بداية شهر تشرين الأول.
بعد قطف ثمرة التين الناضجة تفتح إلى أربعة أجزاء ثم تنشر على المسطاح وتبقى عدة أيام تحت أشعة الشمس ثم تقلب وتبقى أيضاً بضعة أيام أخرى حتى تجف، هذا مع العلم أنها لا تغطى في الليل.
ثم بعد ذلك تجمع وتوضع على المستراح، وهو دائرة من الطين وذلك لزيادة الجفاف فيها، ثم بعد الجفاف تجمع وتضغط في قفف من سعف النخيل المستوردة من مصر، ثم تغطى بقماش القنب لتصبح بعد ذلك جاهزة للبيع للتجار الوسطاء.
وكان اهتمام المزارع بأشجار التين فائق النظير، حيث تبقى يده في الشجرة طيلة العام من تنقيب الأرض وقلبها ومعالجة السوس والديدان. لذا كان تين تل دبين يعمر خلافاً للمناطق الأخرى. وكان موسم الرعي الشتوي كفيلاً بتسميد الأرض، لأن في كل بلد يوجد فيها قطعان كبيرة من الماعز والغنم والبقر، ويسمونها »العجّال«، يرافقها راع من الصباح إلى المساء.
ويعتبر التين الأبيض العسلاني الأهم للتجارة، وهو أساس الكروم. ثم تأتي بقية الأنواع كالصيداني والسوّادي والبقراتي والبياضي للضيافة والأكل ولصنع »الدحروب«. والدحروب كان يستخدمه التيانون في عملية مقايضة (ابدال) يومية مع القرويين الذين يأتون على دوابهم. وكان الواحد منهم يحمل عنباً وجوزاً أو بندورة، وما يتبقى من الدحروب يبقى للمونة حلوى أو فاكهة الشتاء عند التيانين.
مستقبل زراعة التين:
ويقدر الحاج ابو عدنان سلامة سويد (من كبار المزارعين في منطقة مرجعيوم دبين) عمر بساتين التل بما بين ١٠٠ إلى ١٢٥ سنة. الا انه يرى أن زراعة التين في الوقت الحاضر لا تبشر بالخير. فلقد أدى الإهمال إلى اليباس. وقد بدأ اليباس منذ ستينيات القرن الماضي، ولم يبق في التل بالوقت الحاضر إلا حوالى ٥٠ شجرة. واستبدل قسم من أراضي التل بزراعة الزيتون وترك القسم الآخر (بدون زراعة).
صناعة في طريق الزوال
ويجمع المعمرون في المنطقة بأن زراعة التين لن تعود إلى سابق انتشارها وإزدهارها في منطقة التل والخيام والقليعة بالرغم من وجود بقايا لهذه الكروم المنسية والتي كانت منتشرة في تلك المناطق، إلا أن زراعة التين لا زالت منتشرة في منطقة العرقوب (الهبارية، الميرية...) وغيرها من بلدات المنطقة، وتباع منتجات الكروم وخاصة التين العسلاني الناضج في منطقة النبطية إبتداءً من شهر أيلول وامتداداً إلى تشرين الأول حيث يتأخر نضوج ثمرة التين في هذه المنطقة بخلاف تين التل وجواره والذي كان نضوجه إبتداء من منتصف شهر تموز.
ويبدو أن من الأسباب التي أدت إلى يباس كروم التين وعدم الاهتمام بتجديد زراعة الكروم بالإضافة إلى وقف التصدير إلى مصر هو ضعف الطلب على التين الشريحة من قبل العائلات الجنوبية خصوصا وبقية المناطق عموماً، حيث كان يستعمل في صناعة التين المغلي مع الجوز واللوز وهو كان بمثابة حلوى الشتاء. والحنين إلى هذه الشجرة الخيّرة مرتبط بوجدان وتراث أهالي جبل عامل إذ لا يخلو بستان أو حديقة منزل ولو من شجرة تين واحدة أو أكثر، وذلك لأكل ثمارها الناضجة واللذيذة وهذا طبعاً لا يعيد مجد هذه الشجرة المباركة إلى سابق عهدها.
أبو فارس يجدد
ومع هذا تلوح بالأفق بارقة أمل في إعادة زراعة كروم التين، ولكن ليس في منطقة التل وجوارها وإنما في منطقة الريحان، حيث قام أبو فارس (ابراهيم أبو ملحم ) وهو من المزارعين الناشطين والعاملين في مجال البيئة على تشجيع المزارعين اصحاب الكروم في منطقة الريحان على إعادة زراعة الكروم اليابسة التي ورثوها عن آبائهم بأشجار جديدة. ويبدو أن حملة أبو فارس قد أعطت ثمارها، إذا تم إلى الآن إعادة غرس حوالى ١٠٠٠ نصبة من أشجار التين.
وأخيراً فحبذا لو أن الجمعيات البيئية ووزارة الزراعة وكل من يهتم بتنشيط المجال الاقتصادي يشجع العائلات اللبنانية على إعادة صنع التين المغلي (المصنع من الشريحة) في المنازل لما لهذه الحلوى من فائدة غذائية غنية بالمعادن والبروتينات، بالإضافة إلى جهد خاص لإعادة تصدير الشريحة إلى مصر وغيرها من الدول وذلك بهدف إعادة إنتشار زراعة هذه الشجرة المباركة.