أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

«عبد.. الجرافة»

الأحد 24 آب , 2014 11:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 4,166 زائر

«عبد.. الجرافة»

 لمحتُه. كان يتهادى على هواه وعادته. قفز من فوق أضرحة كثيرين. ابتسم لهم. ضحكته العالية لم تتغير. فيها الهزل واللعب والخفة والبراءة والإصرار على ألا يكبر. على أن يقاوم العمر والأيام والتجارب والتحولات. على أن يبقى حيث هو، طيباً وفقيراً وساذجاً ومحتالاً.. ولا يؤذي أحداً.

الأيام صعبة وواقع أحوال «عبد» وعائلته مقيم عند حافة الأشياء دائماً، فكيف النجاة من المطبات، من رغيف الخبز إلى أجرة الطبيب والدواء والمستشفى. مَن يرعى مَن؟ زوجته «هلا» المنهكة بمرضها الخبيث، أم «عبد» اللامبالي بشرايين قلبه تستجديه أن يرحمها، لكنه يمضي في أيامه راكضا كأنه ابن خمسة عشر ربيعاً ونيف.

كنا صغاراً، وكان «عبد الجرافة» هو الكبير. البطل. الشيوعي. المناضل. كنا نفرح بيديه الخشنتين تحاصر أجسادنا حباً وعناقاً. كنا أسرى صورة الفتى الذي حمل السلاح ولم يكن قد أكمل السادسة عشرة. صورة الضابط العشريني الذي لا يفهم حرفاً في السياسة. كان الأحب إلى قلبه أن يرمي قذيفة أو صاروخاً أو يصنع عبوة. أن يقتني وسيلة تسهل اكتشاف الإحداثيات. تدرب على يديه كثيرون من أقصى عكار إلى عرسال مروراً بالجبل والضاحية والجنوب.

هذا الشيوعي بالفطرة، لم يكن مثقفاً ولا مسيّساً. كان الحزب هو العائلة والعالم والمتنفس. لو سألته لأجابك مثرثراً كثيراً.. والنتيجة أنه لا يستطيع أن يقنع طفلاً. هذا هو «عبد الجرافة».

لمحته بالأمس، يجلس تحت شجرة وارفة في تربة عيناثا، ومن حوله أولاده الثلاثة: علي ومارسيل وخليل. ما عرفوه إلا والداً محباً ومناضلاً في سبيل حياة أفضل لهم. عرضوا له ما تداولته أنامل محبيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي ظل غريباً عنها. قال لهم بالحرف الواحد: أنا مقاوم طبيعي. وكل إهانة للحزب الشيوعي وللشيوعيين تصيبني بسهم في قلبي. وكل مس بالمقاومة الإسلامية وأبطالها وسيّدها، يقتلني.

لـ«عبد الجرافة» سيرة طويلة، من النبعة وبرج حمود إلى صيف العام 1982.. وصولاً إلى انضوائه تحت راية مقاومة «حزب الله». للجميع أن يتذكروا ضحكته وأن يحترموا نومه الأخير والأبدي، بالطريقة العبثية التي اختارها هو، ولنا نحن أن نكتشف كم كنا مقصرين معه، ومع أبطال كثر.. من ذلك الزمن الجميل.

  حسين أيوب - السفير 

Script executed in 0.16431379318237