أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

الجنوبي المبدع ناظم إيراني / رحل بهدوء

الإثنين 01 أيلول , 2014 08:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 12,983 زائر

الجنوبي المبدع ناظم إيراني / رحل بهدوء

ربما تمنى ناظم إيراني مرات ومرات، أو الف مرة، أن يريحه الموت بعدما كبله المرض وأقعده، وهو المشتعل طاقة مذ كان في الخامسة عشرة، إذ برزت موهبته الفطرية نحو الرسم والنحت، مكتسباً بذرتها من موهبة والده محمد إيراني، لكنه ما لبث أن عززها بدراسات في كلية الفنون الجميلة في بيروت، ثم بدراسات عليا في أكاديمية الفنون الجميلة في موسكو. كيف لمثله أن تعجز أوصاله عن الرسم والنحت؟ وهو القائل: "إن روح الفنان تبقى دائماً ظمأى للعمل، إذ هي كالزهرة إن لم نسقها ماء ذوت وماتت. وهكذا العمل بالنسبة إلى الفنان بمثابة الماء للزهرة، قبل بدء العمل أكون ظمآناً وبعد نهايته أرتوي حتى ولو كانت التجربة العملية فاشلة".

أسبوعان من الزمن فصلا بين رحيل مبدعين اثنين من الجنوب، موسى طيبا وناظم إيراني، اللذين شكلا محورين وربما مدرستين في الفن التشكيلي اللبناني بعامة والجنوبي خاصة. قد تكون المدارس الغربية قد جذبت طيبا أكثر وتركت آثارها على منحاه التشكيلي، لكن بقي إيراني سنوات طويلة ينادي بخصوصية الفنان الشرقي وينحو بعصبية نحو النمط التراثي الوطني والعربي وهو الغارف من مَعين المدارس السوفياتية. وراح ينحاز بمعظم أعماله إلى الإنسان، مقللا من أهمية الطبيعة التي يعتبرها مساحات للمحور الاساس الذي هو الإنسان، فيقول: "الإنسان هو الموضوع الأكثر توافقاً مع ذاتي، فالشكل البشري هو معين لا ينضب من الحركة، وهو مصدر غني دائماً بالحركة والفكرة، فهو كما كان منذ الأزل سيبقى إلى الأبد المادة المفضلة وربما الوحيدة بالنسبة إلى النحت. فنحن نرى الإنسان كل يوم ومراراً، وعلاقتنا مهما كانت وطيدة بالأرض كفلاحين وبالمصنع كعمال، فهي مرتبطة أولاً وأخيراً بالإنسان الذي هو على الأرض مصدر كل شيء". من هنا نجد أن معظم أعماله في النحت والرسم التي نحت أسلوب التبسيط، تدور في هذا الفلك، فتلك مزارعة تبغ جنوبية تمتد قامتها المنحنية على امتداد حقل التبغ، وذاك الجنوبي المعتمر كوفيته تنتصب قبضته عملاقة بوجه البنادق الإسرائيلية، وتلك فلاحة تواجه بمعولها فوهات الدبابات الإسرائيلية، فضلاً عن منحوتات مختلفة الأحجام ومنها "المأساة" و"أسطورة شهرزاد" التي تكرّس هذا المنحى.

الحضارات العظيمة

إلى التراث العربي شغلت ناظم إيراني ضخامة أعمال الفراعنة وبساطتها وواقعيتها، وجمالية وإبداع سومر وأشور وبابل. واستحوذت هذه الأعمال العظيمة على تفكيره. وكان يؤمن بأن العطاء هو بالتمام عند نقطة اللقاء، مما يأتي من الشرق القديم وما يصل من الغرب الحديث على الأرض التي يعيش عليها العرب "إن الإنسان منذ القدم كان ولا يزال المادة الأولى والأخيرة بالنسبة إلى النحات، وما عداه ليس سوى متممات إذا استثنينا بعض الصدف لدى كل فن عند أي شعب كان".

يشير أحد تلامذة ناظم إيراني النحات شربل فارس إلى أن معلّمه "اعتمد أسلوب التبسيط بالقدر الممكن والذي لا تزول عند حدوده معالم الموضوع ويتحطم على مساحاته الشكل الحي وجمال الإنسان وحركاته، وكان يتوخى دائماً البلاغة والإعجاز في التعبير إلى جانب التبسيط في المساحات الخارجية".

ويؤكد أن الحرب الأهلية التي أرخت بأوزارها على لبنان منذ العام 1975 أصابت ناظم إيراني في الصميم، "فقد كنت أساعده في نحت تمثال جمال عبد الناصر في محترفه في محلة بدارو الذي تسبب القصف بغرقه التام وتلف عدد كبير من أعماله، ما أثر سلباً على معنوياته ومزاجه الفني، إلى جانب جهده المتواصل في البحث عما يؤمن له مصدر عيش كريماً، ومن هنا بدأت تراوده فكرة الهجرة، لكن بقي يؤجل وينتظر ساعة الصفر". وقد أطلق إيراني حينها على الحادثة "مقبرة الطيونة".

قال مرة في حديث صحافي مبرراً هواجسه "لي أمنيات لا تعدّ ولا تحصى، لكن، أنا فنان قيدته ظروف الحياة والمجتمعات السخيفة عن أن ينطلق إلى الإبداع بكل قواه وطاقاته. ومن أبسط هذه الأماني هي قضية التفرغ الذي يجب أن تضمنه وترعاه الدولة كما هو في الاتحاد السوفياتي مثلاً. إن أماني الفنان وملامحه يجب أن تكون أكبر وأبعد منه، ومن ذاته بكثير، إذ لو اكتفى الفنان بالقدر الذي وصل إليه في البداية لمات قبل أن يولد".

ثم يدافع عن أسلوبه الفني، فيقول: "أسلوبي الشخصي قد أطوره وأغذيه بالفكر التراثي أولاً وبالفكر المعاصر ثانياً، قد أبسطه أكثر وربما أزخرفه أكثر، ولكن لن أنزل إلى سوق التقليد مهما رخصت البضاعة أو غلا سعرها، فأنا ناظم إيراني، يعني أنا إنسان شرقي ولن أكون أبداً هنري مور ولا زادكين أو غيرهما حتى، ولا أحب أن أكونهما أو أن أكون مايكل أنجلو أو ميرون".

المهارة والخلق

وبالنسبة إلى النحات، من وجهة نظر إيراني "من الواجب أو الضروري أن يكون البحث عن الشكل الخارجي، بما فيه من عناصر الجمال والبلاستيكية، هو الهدف الأول، أما الموضوع فيأتي بالدرجة الثانية، هذا حتى ولو كان الموضوع جاهزاً أو مختمراً في رأس الفنان، وهذا ما أَعتبره منطبقاً عليّ بالذات، مع الضرورة في أن يكون في رأس الفنان موضوع معين شرط ألا يسمح الفنان للموضوع أو الفكرة بأن تسيّره أو تقوده إلى حيث لا يجوز أن ينقاد. وإذا استطاع الفنان أن يسيطر على الفكرة ويقودها هو حيثما يجب، لاعباً بالأشكال الخارجية بجرأة وحرية، فعندئذ فقط يمكن أن يكون العمل الفني أقرب إلى النجاح منه إلى الفشل، حتى ولو كان الفنان غير راض عنه".

ويتابع: "هناك فنانون بلا حصر لا يعرفون أصول الرسم وتقنيته، ورسامون مهرة ولكنهم ليسوا بفنانين، إذ ينقصهم عنصر الإبداع. والفنان الناجح هو الذي يجمع بين هذين العنصرين: المهارة في الرسم، والقدرة على الخلق والإبداع، وبالتالي مزجهما في قالب فني كي يستحق العمل تسميته بتحفة رائعة. لا شك في أن هناك قضايا أخرى وهامة، منها: كيفية إيجاد أسلوب شخص معين، وإمكانية الانطلاق في تكوين الشخصية الفنية من منطلق تراثي وطني بالذات. وأحب أن أؤكد أن عنصر الثقافة عند الفنان المثقف الواسع الاطلاع يلعب دوراً بارزاً في تكوين شخصيته، وإذا لم تكن لدى الفنان مثل هذه الثقافة الضرورية اللازمة له، فإنه مهما كان موهوباً ومبدعاً وبارعاً، فإن عمله سيبقى مجرد عمل فني جميل بشكله ولكنه يخلو من الروح والعمق اللذين يحركان العمل الفني كما تتحرك الأشكال الجامدة في آثار الأشوريين والمصريين والمكسيكيين القدامى، وكما تتحرك المقنعات والتماثيل في الفن الإفريقي الساذج، وكما تتحرك الفنون الشعبية المليئة بالدفء والحرارة".

كامل جابر - السفير 

Script executed in 0.18259310722351