رحلتَ مخلفاً وراءك قنديل زيت النضال، والآمالِ ، وأغنيةً لحنّتها على إيقاعِ أقدام الشهداء والأحباء... فما رحلت، وما غبت.. لكن شُبهةَ لهم فها انت تلملم أشلاء دموعنا، وبقايا أحزاننا، وتُخرج منها عيون الصباح الضاحكات ، وتحدثُنا عن حنايا الحنين ، الذّي تدفق مع عطرِكَ كلماتٍ وكلمات...
تبدأ بصباحاتٍ ضاحكاتٍ، وتمرُ على عتبات العيون وتنتهي هناك ، وهنا ، على مفرق "طور سنين"...هناك حيث تنتمي الرؤوس ارتفاعاً، وتبكي الأبطال فرحاً... هناك أنت ترخي بنظراتك علينا لتخبئنا من لدغاتِ القهر والدهر وأشواك الحياة...
إنه أنت ، أيها البطل الذي أيقظنا من سبات عميق، فكان فخرُنا بك، فنمنا لنحلم بك،ولنذكرّ من نسِيَ أو تناسى بأنك أول شهيدٍ وأوّل بطلٍ، وأزكى أنواع الحبق الاستشهاديّ الذي نثرناهُ في كلِّ قلوبنا ودروبنا...
استشهد (الأخضر العربي) في الثالث من كانون الأول 1969 بعد معركة مع العدو الصهيوني في جرود شبعا دامت من الخامسة فجرا حتى الحادية عشرة صباحا، استخدم العدو فيها المدفعية الثقيلة وقذائف الهاون ورشاشات المروحيات، أصيب الأخضر العربي إصابة مباشرة حين تقدم تحت وابل النيران لسحب واحد من رفاقه الذين أصيبوا في المعركة،ووذهبت روحه الى بارئها راضية مرضيه؛ وتم نقل جثمان الشهيد من ارض المعركة على ظهر حصان الى المواقع الخلفية ومنها إلى دمشق الشام التي أحبها، ثم إلى بيروت و(بنت جبيل) ؛وفيها ووري الثرى الذي أحبه.
مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين كانوا في وداع الأخضر العربي في الأيام الثلاثة التي أمضاها جثمان الشهيد الفلسطيني اللبناني محمولا على الاكف بين دمشق وبيروت وبنت جبيل.
وسنقرأ في اليوميات سيرة ومسيرة مناضل من طراز خاص جدا في الذكرى ال 45 لاستشهاده.
"أمضيت فترة الحضانة في (مدرسة الرابطة) بحيفا، كنا نسكن في دارنا الكبيرة في طرف حيفا الشرقي (منطقة جامع الحاج عبد الله ـ قرب الحلقة)، وكنت أذهب إلى الحضانة برفقة أبي أو بعض أقاربي، وأذكر أنني نلت مرة جائزة كانت عبارة عن قلم رصاص...
وفي (مدرسة الوداد الإسلامية)، في حيفا قضيت قسماً من المرحلة الابتدائية، وقد وصلت إلى الصف الرابع، وكنا في المدرسة عندما قصفها اليهود بالمدفعية، وأذكر أننا اختبأنا تحت المقاعد...
كنت أذهب إلى المدرسة، أسير مسافة كبيرة مع شقيقاتي كل يوم، نختبئ من الرصاص، ونهرب من شارع إلى شارع، حتى نصل إلى المدرسة، وكذلك في العودة....
وعندما ازدادت الاضطرابات وكثرت الضحايا، أقفلت جميع المدارس... وتفتحت عيناي يومها على الحوادث الدامية، على نكبة فلسطين، الأرض العربية الطاهرة"...
"كنا ننام على دوي القنابل والرصاص ونستيقظ عليها... اعتادت أذني على سماع هذه الأصوات، واعتادت عيناي على رؤية القتلى والجرحى والدماء... ولكنني ظللت أشتاق للمدرسة، للرفاق، للأساتذة، للملعب الفسيح الذي كنا نلعب فيه...
كانت منطقتنا تشعر بالأمان لوجود الجيش الأردني فيها، كان الجيش الأردني (يربض)، قرب بيتنا، وكان الثوار كثيراً ما يمرون أمام دارنا، فنصفق لهم، وتغرورق عيوننا بدموع الفرح، كان يعجبني كثيراً منظر الثوار بأسلحتهم المختلفة، وكنت أهتف لهم مع رفاقي الصغار (فلسطين بلادنا... واليهود كلابنا)، وكثيراً ما كنت أنزل إلى الشارع وأطلب منهم أن يسمحوا لي بحمل السلاح ولو لدقيقة، كان أملي أن أحمل السلاح مثلهم، أن أصبح ثائراً...".
"في هذه الأجواء تفشت الأوبئة، وانتشرت في رأسي (حبوب الرأس)، وكان لابد من العلاج، وبدأ العذاب فقد بدأ والدي يمارس الطب في راسي، وذلك بحلق تلك الحبوب مع الشعر بآلة حلاقة الذقن (!)، وكانت الدماء تسيل بغزارة من كثرة الجروح، وكنت أصرخ صراخاً قوياً، أستنجد بأمي كي تخلصني من أبي، ولكن من يجرؤ على التقدم؟ كان الجميع يخافون منه...
ومع الأسف فقد زاد تطبيب أبي لي من هذا المرض الذي هدد بالفتك برأسي، مارسوا علاجات كثيرة، ثم عرضني والدي على طبيب يهودي، يسكن في حي يهودي، طلب من أهلي إحضاري إلى عيادته يومياً لكي يعالج رأسي بالكهرباء... وكان الذهاب يومياً مغامرة كبيرة كنت أقوم بها برفقة شقيقتي (آمنة) القوية... وشفيت على يد هذا اليهودي، وعاد الشعر إلى رأسي...".
الله معنا..
"جعل الثوار من أحد الدارين حصناً من حصونهم، نظراً لموقعه المشرف على الحي اليهودي، وكنا نذهب إلى مواقع الجيش الأردني ونقف قرب المصفحات، نتعجب منها ونتقاسمها، فنقول: هذه لي، وتلك لفلان... وذات مرة ذهبنا إلى هناك، وفوجئنا بالجيش الإنكليزي، كان العلم الإنكليزي يرفرف هناك، ولما اقتربنا شهر علينا أحد الجنود ـ الإنكليز ـ سلاحه، وطردنا...
وأسرعت إلى البيت الثاني كي أخبر الثوار بذلك، قلت لأحد الثوار ويدعى (الخضر) فقال: عندنا علم، لقد انسحب الجيش الأردني من فلسطين نهائياً، وأصبحنا وحدنا يا أمين...
قلت له: ألا يوجد أي جيش معنا؟..
فأجابني: لا يا أمين... الله فقط معنا...
وكنت أرى بعيني دبابات الجيش البريطاني تقصف بمدافعها الأحياء العربية، لقد كان التعاون بين الإنكليز والصهاينة علنياً وظاهراً، ومن هنا بدأت الذكريات الدامية تدخل إلى أعماق نفسي الحديثة الصغيرة، وإلى قلبي الضيق، وتفكيري المحدود...
وكانت تلك ليلة رهيبة جداً، اشترك الجميع بالحراسة، الكل أصبحوا ثواراً...
وذات ليلة كان سكان المنطقة (ضئيلين) جداً، وإذ بأصوات حفر تسمع منا... ا لأنوار مطفأة، وقد اجتمع الجميع في الطابق الثالث بدارنا، عشرات النساء والأطفال والرجال، لقد كانت الدار مطوقة باليهود، وعشنا تلك الليلة على أعصابنا، حتى الأطفال لم يناموا... وفجأة انطلقت بضع رصاصات، تلاها انفجار قوي، ثم هدوء تام... وانبثق الفجر بنوره، وانتشر الثوار يفتشون في المنطقة... كان الانفجار في بيت جارنا الذي هدم على أصحابه، والرصاص أصاب جارنا (أبو نعيم) في رأسه، ومات تاركاً قربه قرصاً من الدم الأحمر... شاهدته بعيني...".
ثم يأتي إلى الاقتلاع :
"خضع أبي للأمر الواقع، وقرر ـ بناء على أمر من الثوار ـ الرحيل، ورحلنا إلى قلب المدينة ـ حيفا ـ وبعد أيام جاء والدي ليقول لنا: سنرحل من هنا نهائياً ـ يقصد من فلسطين ـ. كان يتكلم بدموعه، لقد كان يبكي!!... وسألته: إلى أين يا أبي؟... قال: إلى لبنان.. سنترك هذه الأرض بعد أن باعها ملوك العرب...
قلت: متى سنرجع؟
قال كلمة واحدة: سنعود... واستقرت هذه الكلمة في قلبي....
وصعدنا إلى الشحن الذي أقلنا، وقد وضعنا فيه بعض الأغراض البسيطة، وكنت أحتضن محفظتي المدرسية وكرة قدم، لقد تركنا كل شيء، أرضنا وبيتنا وأموالنا... وصعدت معنا في الشحن أسرة فلسطينية، وسرنا نمر على دوريات تفتيش عديدة إلى أن وصلنا إلى (بنت جبيل) ـ مسقط رأس والدي ـ عند الغروب. وسكنا في دارنا في (بنت جبيل) التي تتألف من غرفتين، وسكنت معنا في الدار الأسرة الفلسطينية، وزادت الروابط بيننا، إنهم إخواننا في النكبة والنزوح... تناولنا جميعاً طعام العشاء عند جدي، وأمضيت تلك الليلة وأنا أفكر: كيف تركنا فلسطين؟.. ولمن؟.. ولماذا؟.. كان تفكيري أكبر من عمري..".
"كنت في الصف الرابع الابتدائي، وهنا التقيت بإخوتي أبناء النكبة، وأذكر المظاهرات المحزنة التي كنا نقوم بها في ذكرى النكبة، ترفرف فوق رؤوسنا أعلام الحزن السوداء ونحن نردد:
نحن أطفال صغار
أبرياء ظلمونا
يا فلسطين سلاماً
كيف عنك أبعدونا
حرّموا الدنيا علينا
دون عدل شردونا
وبدأت حياتي الفنية، وأنا أرسم علم فلسطين، خريطة فلسطين، فلسطيني يقتل صهيونياً... أصبح الرسم هوايتي"...
"نجحت في الشهادة الابتدائية، وكنت الأول في الرسم، وقد علقت الإدارة رسومي في الإدارة والصف".
"كان الموضوع هو رسم الكلية الجعفرية، وقد فزت بالجائزة الأولى وقدرها سبع ليرات ونصف، وطلبت من الإدارة أن تقبل الجائزة المادية تبرعاً مني لصندوق الكلية، لكنها رفضت ذلك نظراً لضعف حالتي المادية. لقد كانت ثيابي عتيقة مرقعة، وعلامة الحرمان تظهر على وجهي... أخذت الجائزة واشتريت بها معطفاً وقميصاً اتقي بهما برودة الشتاء".
فلقد قام برسم صورة للرئيس جمال عبد الناصر، وبعث بالصورة مع رسالة تهنئة إلى الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة بمناسبة إعلان الدستور الجديد، ورد الرئيس عبد الناصر برسالة شكر أرفقها مع صورته بعد أن وقع عليها بإمضائه، وبقيت الرسالة والصورة بين مقتنيات (أمين موسى سعد).
(مثلي الأعلى).
"في الوطنية: جمال عبد الناصر.
في التدريس: خليل شرف الدين.
في الاستشهاد: عدنان المالكي.
في الإخلاص: سعود الساحلي".
(رسالة إلى طالب) التي يخاطب فيها الطالب:
"تحياتي إليك وأنت تحيا على مقاعد الدرس، في جو مليء بالعمل، حيث الملأ ينطلق من سعادة ائتلاف الحياة بالعمل... أريدك يا أخي، مثلاً طيباً، ملء نفسك الثورة والتحرر، والإيمان يعبئ قلبك... لك العُلا إذا سرت على دروب المثل العليا، وما إنشاء النفس إلا عملا يناوئ مساوئ الظروف ويثبت حق الحياة...كن عملاقاً يحطم قيود الجهل والرعب والظلم والعبودية غير آبه بالأخطار، بدار نحو المستقبل بعزيمة ثابتة...".
"كن ثائراً متمسكاً بالإيمان والتضحية، واعمل بإخلاص، ولو كلفك ذلك الدم والروح، انتبه إلى دروسك، وحقق النجاح بفضل إرادتك، ومن ثم فأنت على موعد مع واجبك المقدس تجاه وطنك، عندما تخرج إلى حياة العمل، وأنت تتمتع بالثقافة والتربية، والاستعداد للنضال".
وعن الحرمان:"مع تساقط الأمطار، تتساقط دموع المعذبين، ومع البرد القارس، تلتوي أجسام الأبرياء، ومع الرياح المزمجرة، تتساقط أرواح المشردين، ومع البرق الوضاء، والرعد الكاسح... تحدث أيها الناشئ عن هؤلاء الأبرياء الذين يعيشون الشتاء في جو رهيب".
وعن الشهيد يقول (أمين موسى سعد)
"الشهيد هو ذلك الملاك النائي في المتعة المثلى، ونراه في كل معترك، إنه الروح الخالدة في ضمير الشعب، ترطبها مؤق العين، وتبقى تسبح في عالم التنبؤات وقد غدا محياها رمزاً للتفاؤل، وكأنها ترتل إلى كل موطن قائلة:"فِ بوعدكِ نحو الوطن، قم بالواجب، وابتعد عن اللامبالاة، ولا تكن ملهاة في عالم التأوهات التي أمسى مع حفدة الخمول.
"أذكر بأنني وعدت قبل اعتقالي بأيام قليلة خمسة طلاب من الصف الأول تكميلي بجائزة لكل فرد، وذلك تقديراً لهم في كتابة الموضوع الإنشائي الأخير، والذي يدور حول المشكلة الحالية تقريباً، ولم أنفذ وعدي بعد، فهل يا ترى سأعود، وأُقدم إلى فلذات كبدي جوائز رمزية؟ أم أنني لن أعود، وأحرمهم من حقهم في المكافأة والتقدير؟ آمل أن أعود، وإذا لم أعد، أرجو أن تعطى لهم هذه الجوائز من أغراض بيتي، بل أحسنها، ولكي تبقى ذكرى مني لهم، تحمل في طياتها أجمل عبارات الحب والتقدير، لهم ولجميع طلابي". (العاشرة، والدقيقة العاشرة ليلاً من يوم السبت 17/شباط/1962).
قام الأخضر العربي بزيارة المطران باسيل سماحة، ودعاه لزيارة خنادق المقاومين في الجنوب وهذا المطران يكتب في رثاء الأخضر: (لا تظن أيها الصديق أنني سأحسبك غيرت موعداً كنت قد أعطيته يوم عرضت علي وبضع رفاق لك ودعوتموني إلى زيارة خنادق الشرف والكرامة حيث شعت أنوار مبادئكم، ولن أحسبك غيرت موعداً إذ قضيت شهيداً قبل الموعد الذي قررناه معاً... ستكون معنا يا أخضر العهود بلحيتك المسترسلة شلالات خير وعطاء، بهامتك المشرئبة عزة وشرفاً، بصوتك الآتي من أعماق أعماق براكينك الثائرة.....).
ويكتب أمين سعد عن اعتقاله في (سجن المزة) بدمشق و(سجن الرمل) في بيروت، تحت عنوان (أذكر):
"أوقفت وضربت وعذبت مراراً، اشتركت في ثورة لبنان، وحملت السلاح طيلة شهور هذه الثورة، حملت سلاحي المقدس الذي أحضرته من دمشق، بعد مسير حوالي مائة وخمسين كيلو متراً في تعب متواصل وسيراً على الأقدام، وكنت أربط سلاحي بدمي وروحي.
أصبت بشظايا قنبلة خفيفة في مظاهرة استنكار إعدام الضباط الأحرار في العراق أمام السفارة العراقية في بيروت، وقد فقدت كمية كبيرة من دمي، وعشت أياماً في ألم وسهر متواصل، أقول وكلي عزم وإيمان بأن كل هذا النضال المتعدد الذي قمت به ماهو إلا نقطة صغيرة من محيط الواجب المقدس علي... وما عليَّ إلا أن أرفع من مستوى النضال في تفكيري وعملي، وأعيش مرحلة أكثر جدية، وأعنف فعالية من الماضي".
ولقد كان صادق الوعد، بذل دمه في ساحة المواجهة، في الثالث من كانون الأول عام 1969، وكان حينها في الثانية والثلاثين من عمره..