وسط انشغاله يستقبلك أبو مروان بإبتسامة عريضة في محله المتواضع، وهو منكب على عمله منذ الصباح الباكر بلا كلل أو ملل، يتناول الحذاء من «الزبون»، يفحصه بدقة ويشخص مرضه، يلتفت إلى زبون اَخر قائلا: «عندي ضغط في المستشفى، حذاؤك أصبح في غرفة العمليات»، ما يعني أن الحذاء قديم ويتطلب علاجاً أطول من الحالات الطارئة «كدق مسمار أو درزة عالماشي» مع «وجه بولش (بويا) مرتب» ويناول الزبونة كندرتها قائلاً: «ضعيها بعد ساعة يا ست الستات حتى تجف البويا مع توصاية خمسة في المئة»، ويسأل زبوناً آخر ممازحأ: «هل أنت مضمون»؟ فيجيب الزبون ضاحكاً: «لا أنا على حساب التعاونية»، مضيفاً بعد إعطائه الحذاء مع الوصفة: «يجب أن لا يشرب حذاؤك الشاي لمدة ثلاثة أيام»!.
خلف ماكينته يجلس أبو مروان الذي تعلم مهنة الإسكافي في منطقة برج حمود، والتي أمنت له رزقه على مدار السنين الماضية، تحيــط به الأحذية والجلود والأدوات التي يستعملها في العمل من (كعبيات، نصف نعل، خياطة درزة، مسامير وتلزيق) وغيرها من عدة الشغل، خلفه لوحة كتب عليها «مسموح الدين لمن عمره فوق التسعين عاماً وبحضور والديه»، ممهرة بتوقيع إدارة المستشفى.
«قد يبدو اسم المستشفى غريباً بعض الشيء، لكني أريد التميز عن غيري لأجذب الزبائن»، يوضح أبو مروان أن هذه التسمية كالفرق بين التقليد والإبتكار في الإعلام لتترسخ في أذهان الناس، وشهرة «مستـــشفى الأحذية» استقطبت الكثير من النبطية وجوارها فضلاً عن أني أعمل بضمير ويحبني الناس الذين يأتون إلي من مختلف المناطق.
الإقبال على سوق اللحم في النبطية يجعل التعرف سهلاً على المستشفى وزيارته، ناهيك عن الإيجار القديم لمحله، والذي يبلغ 800 ألف ليرة لبنانية في السنة، وهو ما جعل أبو مروان يصمد أربعين عاماً في مهنة لا حقوق للعامل فيها، ولا ضمان صحي أو شيخوخة. ويسترسل قائلا: «مرتاح أنا مع نفسي ومع الآخرين، أحب محلي كما هو ولا أريد تطويره، حرفة الكندرجي لا يوجد فيها تطور سوى الإختلاط مع سائر الناس بمستوياتهم وانتماءاتهم كافة، يتعاطف مع الفقراء وذوي الدخل المحدود، وتختلف تسعيرة الحذاء حسب عطله، فكلما كان الحذاء ثميناً يرتفع سعر تصليحه، ويقوم بحسم خمسين في المئة للفقراء «واللي ما معو ما يدفع ما بتفرق» يقولها بلا مبالاة. أكثر ما يؤثر بأبو مروان الفقير في موسم الأعياد، عندما يأتي أب لخمسة أطفال لا يملك المال لشراء أحذية جديدة لهم، ويعبر عن شعوره بالإنتماء لهذه الفئة من الناس قائلاً: «مساعدتهم تشعرني بالسعادة وإن كانت بإصلاح حذاء قديم».
يروي أبو مروان كيف كان مدخل سرايا النبطية مكتظاً بعشرات المحلات لصناعة الأحذية، والتي كانت تصدر إلى الشام وجبل لبنان وفلسطين في أوائل القرن العشرين، وقد اندثرت هذه الصناعة اليدوية، بعد هجرة أربابها بسبب الحروب والضائقة الإقتصادية التي مرت بها المنطقة، واندثرت بحكم تطورها وانتقالها إلى المصانع والآلات الحديثة، وبقي من أصحابها ثلاثة أشخاص في النبطية، على رأسهم أبو مروان الذي ربى وعلم أولاده الثلاثة، بينهم مهندسان، ثم هاجروا إلى ليبيريا لأنهم لم يحصلوا على فرص للعمل في لبنان. «يتقن أولادي المصلحة»، يقول مسروراً ومفتخراً بهم، «فالكندرجية ليست مجرد مهـــنة بل هي حرفة أحببتها مـــنذ الطفــولة، على الرغم من ميولي السياسية التي دفعتني لكتابة المقالات وإجراء الحوارات الثقافية في بعض الصحف اللبنانية».
أبو مروان «إسكافي غير حافي» بعدما حول حانوته الصغير إلى صالون من صالونات الثقافة والمعرفة من خلال حواراته المختلفة مع الزبائن. ونهمه للقراءة جعله من طبقة المثقفين الكادحين ينفق ماله لشراء الكتب، وحمل كتابين لأنطون سعادة عن المقاومة القومية وسعادة والثورة. ويمتلك مكتبة تحوي 300 كتاب يعتبرها الأولى في الجنوب من حيث المصادر والتبويب، حيث يقضي ساعتين من وقته بعد العمل في القراءة والكتابة. وهو بصدد تأليف كتابه الخـــاص عن «تاريخ اليهود وانتشارهم في العالم العربي».
أبو مروان يدرس التاريخ بنفسه وينقب بين صفحات الكتب والمراجع القديمة ويتعاون مع «مؤسسة القدس الثقافية العالمية»، حرفته لم تمنعه من المشاركة بنشاطات فكرية وثقافية واجتماعية، لأن المجتمع معرفة والمعرفة قوة برأيه، وللعامل في الجنوب حسب قوله وجهان: وجه عملي وآخر ثقافي يتميز بعلمه وعمله في آن، يظهر هذا بمفهومه إلى مهنته مشيراً بيده إلى لوحة خلفه عليها مثل فرنسي يقول: «ليس هناك من مهنة حقيرة بل هناك أناس حقيرون».
عملة نادرة
المهن الحرفية في الجنوب باتت عملة نادرة بحكم إندثارها يوماً بعد آخر، نراها في المناسبات تعرض كفولكلور شعبي، تولد فينا حس «النوستالجيا» لأجدادنا في زمن مضى أخذ معه «مبيِّض الأواني النحاسية، المنجد، صانع الطرابيش، المكوجي، البوابيري، والكندرجي».
برغم التطور الحاصل على هذا الصعيد، فإن بعض المحترفين في الجنوب ما زالوا يحافظون على مهنتهم وإن باتت نادرة، كمهنة تصليح الأحذية التي تعتبر من أقدم المهن وأكثرها شعبية، لأن شراء زوج من الأحذية الجيدة بات مكلفاً بالنسبة للفقراء وذوي الدخل المحدود، وهذا ما يدفعهم إلى اللجوء إلى الإسكافي لترميم أحذيتهم.
رمز عيد العمال
انتخبت بعثة الاتحاد الأوروبي أبو مروان رمزاً لعيد العمل في الجنوب، فوضعت صورته على رزنامة كرمز لهذه الذكرى، ويفتخر بأنه صاحب عقيدة ويمثل نهجاً وفكراً منفتحاً، يتابع صفحته على الفايسبوك باسم أبومروان العاملي، ويفتخر بصورة تجمعه بنقيب الصحافة السابق محمد بعلبكي الذي عاش معه لسنوات إبان فترة الحرب الأهلية في بيروت، ويشيرإلى صورة أخرى تجمعه بالنائب السابق نجاح واكيم رفيق نضاله الطويل من أيام البسطة.
زينب ضاهر
السفير بتاريخ 2015-06-03 على الصفحة رقم 4 – محليّات