تقاعس مسحراتي بنت جبيل قسراً عن تنبيهنا هذا العام، بعدما كنّا نتفاخر بمحافظة بلدتنا على هذا التراث الجميل، و إن تغيرت معالمه في السنوات الأخيرة. فبعدما كان للبلدة شخص واحد ينبّه الناس من نومهم للسحور، صار لكل عائله، بل لكل فرد في العائلة المنبه الخاص، تطبيقٌ محمّل على الهواتف الذكية. و يتفنن رواد المجال التقني في تحديثه للمستخدمين، من منبهات عادية إلى تطبيقات "مسحراتيه" يمكن ضبط تفاصيلها حسب الرغبة.
"يا نايم وحّد الدايم...قوموا عالسحور...رمضان إجا يزور"، نداءات المسحراتي التي جعلت الأطفال يصطفّون على نوافذ غرفهم ليسمعونها و يشاهدوه. فهذا الرجل الذي يلبس لباسا بسيطاً يُمثّل بالنسبة لهم، شخصية تشبه شخصيات القصص و الرسوم المتحركة، هو في عيونهم ليس شخصاً عاديّاً، بل هو كما الحلوى و جمعات العائلة من أهم معالم الشهر الفضيل. و كما أن شهر رمضان شهر الطاعات و العبادات للكبار، هو شهر الفرح الملوّن للصغار.
و اللافت أنه تراثٌ إسلامي موحّد، بدأ منذ بدايات الإسلام حيث كان الناس يعوّلون على المسحراتي لايقاذهم، تماماً كما يعتمدون على المؤذن ليرفع بصوته الأذان. و مع تطور أساليب العيش صارت جولات المسحّر طقس تراثي رمضاني، حافظت عليه بعض المناطق، إذ يضفي نكهته الفرحة على الأجواء العامة.
و تمسكت بنت جبيل بهذا التراث، حيث كان المسحراتي يجول لأكثر من ساعة داعياً للسحور. و في السنوات الأخيرة استمر "التسحير" و لكن اقتصرت مهمة المسحراتي على قيادة السيارة، فقد كان يقود سيارته تاركاً مهمة التسحير إلى "مسجلة" السيارة و المذياع، و على أنغام "يا نسيم السَّحَر" يجول كافة الشوارع و الحارات. و بذلك حجب المسحّر شخصيته خلف مقود السيارة. و أما هذه السنه، فقد صام من كان يسحّر الأهالي عن مهامه، و لم يعد للمسحراتي أي ظهور، و يُرجع أحدهم السبب إلى "انزعاج البعض".
بالإضافة إلى ذلك، فإن "إطلاق المدفع" إيذاناً بحلول موعد الإفطار أيضاً توقّف هذا العام، و هو عبارة عن مفرقعة نارية كانت تُطلق كل يوم عندما يحين موعد الإفطار، كرمزٍ لما يعرف بمدفع الإفطار. و يُذكر أن بنت جبيل لا تزال تحافظ على الأكلات و الحلويات الرمضانية الشعبية التي تزدهر طيلة أيام الشهرالفضيل. كما تزدان بحلّة الإضاءة الرمضانية التي تكسو المسجد الكبير كل عام.
حارات البلدة ودّعت المأسوف على تقليده؛ "المسحراتي" و تقليد "التسحير". و ذلك بعدما طالته لعنة التحديث التكنولوجي، و استبدلَت مجهوده قسراً بمسحّرٍ إفتراضي يرقد مبرمجاً في هاتف "ذكي"، تحت الوسادة. حاضرٌ إفتراضي، كلَّما يوقظنا نودُّ لو نصحو منه، لا عليه. فهل يُنقذ المسحر ما بقي من ليالي الشهر الفضيل، و يباشر جولاته؟
داليا بوصي - بنت جبيل.اورغ