كنا ومريم ممن شاهدوا العدو وهو يبني حصونه على تلالنا، اثاروا استغرابنا، لم نفهم ما الذي يحصل، لكننا لم نبال بهم . استمررنا يوميا، نمارس العابنا المعتادة، السبعة حجارة، واللقيطة والبيت بيوت وغيرها. اطفال الهاهم لعبهم عن كل ما يدور حولهم .
وككل سنة عدنا في تشرين الاول الى المدرسة، لكنها لم تكن كعادتها تعج بالتلاميذ القادمين من القرى المجاورة. هجرها الجميع وبقينا وحدنا، عدد قليل من ابناء الضيعة يبثون الحياة بين حيطان المدرسة التي سكنها الهجران. حتى ايام الدراسة تناقصت بسبب استهداف المدرسة برصاص القنص او القذائف " العشوائية ".
عوضنا عن ايام الفراغ الطويلة بجلسات ملأناها بالاحلام والتمنيات مع مريم وشقيقاتها. وكانت جملنا دائما تبدأ بـ " بكرا بس يفلوا " فالعابنا المعتادة لم تعد مسموحة خوفا على حياتنا.
في ذلك النهار، واثناء عودتنا الى منازلنا من المدرسة، طلبت مريم منا ان نساعدها في كتابة فروضها بسبب تورم اصبع يدها، فوعدناها بأننا سنقوم بذلك كما فعلنا في الايام السابقة : " راح نتغدى ونجي انطرينا ". وتابعت سيرها الى المنزل .
لم نكد ننتهي من تبديل ثياب المدرسة حتى بدأ قصف جنوني على البلدة . بدا وكأن ابواب الجحيم قد فتحت على بلدتنا الصغيرة ( كفرا ). فقدنا احساسنا بالزمان والمكان. كانت اصوات القذائف والصواريخ وهي تصفر فوق رؤوسنا قبل ان تنفجر في مكان اخر تطغى على كل ما عداها . يقطعها بين الحين والاخر دعوات الكبار:" يا رب ارحمنا، نجنا يا الله ".
هدأ القصف، لكننا لم نتحرك من مكاننا في زاوية احدى الغرف، حيث جلسنا نحتضن بعضنا بعضا خوفا من قذيفة " عشوائية ". فجأة، طغى صوت سيارات الاسعاف المسرعة في ساحة البلدة على خوفنا.
تسللت وشقيقتي الى مدخل الجنينة، ونظرنا الى الساحة، هناك رأينا "الحاجة ام دياب " تغطيها الدماء تركض صارخة :" الحق اختك يا سلمان، راحت مريم " .
اخبرنا عمتي بما سمعناه، فشددت علينا ان لا نتحرك من مكاننا والا سيكون عقابنا شديدا، وذهبت لترى ما الذي حل باقربائنا. فضولنا الشديد دفعنا الى التسلل الى " باب المنزول " حيث اتجهت سيارات الاسعاف. ملأت الدماء المكان وغطت كل شيء، والى جانب الطريق وجدنا جزءا من قدمها. لم تكن قد غيرت الكلسات النبيذي اللون بعد، ولكنها استبدلت حذاء المدرسة بـ "مشاية" زرقاء، لم ينتبهوا الى وجودها .
هربنا الى البيت وكأن الشياطين تلاحقنا. وانتظرنا بهدوء شديد عودة عمتي التي اجابت عن سؤالنا الصامت :" راحت مريم . ادعوا لوفاء ".
استشهدت مريم، ذات الابتسامة المشرقة والمعدية بفرحها. وما زالت شقيقتها تحمل ندوبا جسدية، كشاهد دائم على هول ذلك النهار الذي اصابهم فزرع في قلوب والديهما حزنا لا يداوى.
بقيت مريم طفلة لم تكبر، لم تنه دراستها، لم تحب وتتزوج، لم تصبح اما، لم يسمحوا لها ان تعيش لتراهم " عم يفلو" .
ارتكبت هذه الجريمة وغيرها من المجازر على أيدي العميل انطوان لحد ورجاله الذين لم يردعهم شيء عن التفنن بايذاء اهالي القرى المحتلة لترويضهم سوى انتصار المقاومة في العام 2000 . مات انطوان لحد عن عمر 88 سنة دون أن يعاقب مع غيره من العملاء على خيانتهم لوطنهم ولا على الجرائم التي ارتكبوها. تابعوا حياتهم وكأن شيئا لم يكن . لكن الذكريات تسكننا ولا شيء يمكن ان ينسينا ما فعلوه ولا شيء يمكن ان يجعلنا نغفر للجنرال العميل .